في 25 يناير 1926 كان ميلاده، وفي 25 يناير 2011 كانت الثورة، وما بين الثورة والفنان خطوط مستقيمة وممتدة تحرض علي الحب والمقاومة والاخاء وتتوالي حالة من الجدل لا تنقطع، ولا تنفرط حبات إبداعها وتوهجها، رحلة متواصلة من الثورة والغضب والحب والفن الجميل امتدت منذ أواخر الأربعينيات من القرن العشرين حتي العقد الاول من الالفية الثالثة. ظل يعمل رغم تخطيه الثمانين، وكان نهر إبداعه يفيض كالشلال، ودارت كاميرته في البلاتوهات بحيوية الطامحين والساعين للنجاح، والمدهش في الأمر أنها ازدادت مع الأيام توهجا وإبداعا وتميزا، وفاجأت الجميع مع كل مشهد وجملة حوار بأن هناك أبعادا أخري تختفي بين السطور، تكتشف عبر تراكم »الفرجة«، كان بارعا في ترتيب وتكثيف التفاصيل الصغيرة التي -ربما- يري البعض أنها غير ذات قيمة، أو أن رصدها قد لا يقدم أو يؤخر في النتيجة النهائية.. لكن حرصه علي رصدها يجعلنا نكتشف - فيما بعد- أن وجودها كان ضرورة إنسانية في المقام الأول، ورغم أن البعض اتهمه بأنه ذاتي أكثر مما يجب، فإن النتيجة أثبتت أنه كان علي صواب في نرجسيته التي طرحت في النهاية أعمالا عظيمة. تقترب شخصيات يوسف شاهين من جموع الناس علي مختلف خلفياتها الاجتماعية والثقافية.. فهي شديدة الصلة بهم وبمعاناتهم، تحمل همومهم التي يقاسونها ويعانونها في حياتهم اليومية، فنجد أمين أفندي، حميدة، شحتوت، جمال، صابر أفندي، عصام، رجب، فريد، قناوي، هنومة، جميلة، عيسي العوام، فرجينيا، أبو سويلم، وصيفة، الشيخ حسونة، بهية، محمد المدبولي، الشيخ بكر، عوكا، علي، صديقة، يحيي، رام، سيمهت، اميهار، الشيخ رياض، ابن رشد، ملك، مارجريت، جينجر، حاتم، الباشوات، الأفندية، العمال، الصنايعية، الطلبة، الفلاحين، الصعايدة، الفواعلية، المثقفين، كل هؤلاء الشخوص الذين رصدتها كاميرا شاهين حاولت قدر إمكانها أن ترصد أنفاسهم. قدم شاهين علي مدار ستين عاما رؤيته لمعاناة الإنسان، وحتي من خلال تجربته الذاتية (إسكندرية ليه 1979، ، حدوتة مصرية 1982، إسكندرية كمان وكمان 1990 ، إسكندرية نيويورك 2004) التي تملأها الأحداث والمواقف التي يمكن أن تتشابه أو تختلف مع الآخرين، وسعي لتعرية الواقع بكل اخطائه وفساده (العصفور 1974)، ولم يعبأ بأهواء الجماهير أو متطلبات السوق، فهو مازال قادراً علي أن يطرح رؤاه التي لا تنفصل عما يشعر به الإنسان البسيط الحالم بتغيير واقعه »حميده في ابن النيل 1951« و»رجب في صراع في الميناء 1956« و»أبو سريع في باب الحديد 1958« »إبراهيم في عودة الابن الضال1976«، ويضع أمام عينيه الآخر بعيدا عن حدود الدين واللون والجنسية (يحيي - ديفيد- محسن) في »إسكندرية ليه«، ولا يؤرقه كثيرا الاختلافات الشكلية والرمزية فهو دائما يسعي للربط بين الآخرين في حلم واحد يعلي من القيم الإنسانية والروحية. ويري شاهين أن الهموم الخاصة هي في حقيقتها هموم عامة لا يجب تجاهلها، أو علاجها في منأي عن الآخرين. وسواء اختلفنا أو اتفقنا مع ما يطرحه من قضايا سيظل دائما حالة من التمرد والإبداع غير مسبوقة. اهتمت سينما يوسف شاهين بالمرأة التي لم ترضخ للقهر الذي تتعرض له، كانت لها مواقفها الثابتة التي لم تحيد عنها رغم التفاوت الطبقي والثقافي بين النماذج التي قدمت من خلال أعماله، فناضلت من أجل المطالبة بكل حقوقها في حدود ما سمحت ظروف كل واحدة منهن، فكانت (زبيدة - ابن النيل1951، أسرار- المهرج الكبير 1952، فكرية -سيدة القطار 1952، دولت - أزهار- رجال بلا نساء1953، امال -صراع في الوادي1954، حميدة - صراع في الميناء 1956، هنومة- باب الحديد 1958، جميلة - جميلة الجزائرية 1958، لويز، فرجينيا - الناصر صلاح الدين، نايلة - الاختيار1971، وصيفة- الارض 1970، بهية- العصفور1974، تفيدة - عودة الابن الضال1976، صديقة - اليوم السادس 1986، حنان - الآخر 1999، ملك - سكوت هنصور2001". يوسف شاهين حالة متميزة داخل أقواس مغلقة علي جانبيها تلال من الأعمال العظيمة والاستثنائية، ومحاولة كتابة تاريخ السينما دونه، يعني ببساطة رسم حروف دون وضع النقاط عليها، لذلك اسمه يعني تحديد الكلمات السينمائية ونطقها نطقا صحيحا. فإما أن تحبه لدرجة العشق أو تكرهه لدرجة الحنق، لكن هذا لا يؤثر علي قدر الاحترام الذي يتحلي به في عيون الآخرين، ربما لأنه لا يميل إلي مسك العصا من منتصفها ولا يجيد الرقص علي السلالم.. وليس لديه ما يخفيه.. كتاب مفتوح لكن قراءته تستلزم جهدا ومعاناة وصبرا. وكثيرون لم يفلحوا في قراءته؛ فاتهموه بالجهل واتهمهم هو بالتخلف. يعلن عن مواقفه السياسية في »الأرض، والعصفور، والاختيار، وعودة الابن الضال، وجميلة بوحريد«، ويحاكي بالواقع بالتاريخ في »الناصر صلاح الدين، ووداعا بونابرت، والمهاجر، والمصير«. لم يلتف حول الكلمات المطاطة أو الأسفنجية، حروفه مربوطة بسلاسل صلبة لا يستطيع أحد فك حلقاتها.. لا يؤثر السلامة في معاركه، ويقاوم بكل قوة حتي الرمق الأخير. الأسود والأحمر لونان حزينان وكئيبان، الأول يشير للحداد والثاني للدم، لكنهما لوناه المفضلان؛ اللذان يوشم بهما كادراته في لوحة الوطن، يحفر بأزميله تلك الحروف الغائرة التي لا يمحيها الزمن، ويظل الإنسان في منتصفها يرصد أيامه وطموحاته، ويفتش داخله عن معان أخري لم تكتشف، يمتطي طموحه ويمسك بلجام أفكاره ليصدرها عبر مشاهد مازالت محفورة في الأذهان. يحرص يوسف شاهين علي إجراء عملية فتح عقل لنفسه وللآخرين، يكشف فيها عن العيوب، ويحاول جاهدا أن يفك تلك الخيوط التي تتشابك من آن لآخر، ثم يقوم مرة أخري بإعادة تشبيكها وتربيطها وتعقيدها ويحتفظ لنفسه بخباياها.. يطرح تلك الأسئلة المستعصية والمسكوت عنها، ويبحث عن إجابات مقنعة ترضيه أولا.. يدخل حقول الألغام ليس لإبطال مفعولها وإنما لتفجيرها.. لم تكن مهمة الفنان فقط التأثير في محيطه والتعبير عنه بصدق وشفافية، وأنما أيضا التأثير في الثقافات الأخري ومد جسور التواصل بيننا وبينهم، والعبور من نفق المحلية الضيق عبر قنوات مختلفة لعالم أرحب وبث إبداعاتهم والتعلم من الآخرين، وهذا ما نجح فيه »شاهين« وبلغ فيه قدراً لم يصل إليه أحد من قبل. أجاد صنع الضوضاء والفوضي المنظمة، حرض علي الفكر والتأمل والمتابعة، وترك للتجربة مهمة التحصيل، عرف جيدا كيف يختار أسلحته وأدواته عند الإقدام علي خوض التجارب الجديدة.. يذاكر.. يقرأ..يراجع.. يناقش، ويكرر دون ملل أو كلل مقرراته، حتي يحفظها عن ظهر قلب، وكأنه تلميذ مقبل علي الامتحان الأخير، مرددا داخل نفسه كلمة هاملت الخالدة أكون أو لا أكون.. وتأتي لحظات النهاية يسبقها نزيف بالمخ يدخل علي اثره المستشفي، وبعد اسابيع من الغيبوبة يرحل يوسف شاهين تاركا حالة من الفراغ السينمائي الموحش لم يتصد لها أحد حتي الآن. لكن عبر الأيام تشهد الاصدقاء والاعداء أن يوسف شاهين حالة متفردة ليس لانه كبير المتمردين، ولكن لأنه واحد من الذين ساعدوا علي تطوير فن السينما.