لماذا ارتعبت "النهضة" من انتصارها؟ كتبتْ من تونس المبعوثةُ الخاصة للأسبوعية الفرنسية "ماريان"، مارتين غوزلان:" الإحراج قاس لخصوم كل تعاون: ألا يجازفون بذلك في تجميد تونس؟ مصطفي بن جعفر(...) حسم: قال نعم للنهضة.أعلن زعيم النهضة راشد الغنوشي مبتهجا هذا الخبر من قطر مباشرة حيث كان أميرها يستقبل بكل حفاوة النبي الأخضر لتونسالجديدة. أكد الغنوشي أيضا مشاركة "المؤتمر من أجل الجمهورية"، حزب المنصف المرزوقي. هنا لا مكان للمفاجأة : المرزوقي(...) لم يخف قط صداقته للغنوشي، ولن يعصي أمرا للإسلاميين، و بالعكس، فإن حزب "التكتل" بقيادة مصطفي بن جعفر أنابه ناخبوه للسهر بعين لا تنام علي الحريات. خاصة حريات النساء. قاعدة التكتل بدأت تحتج : وزراء الحزب قد لا يكونون إلا مجرد مروجين لبضاعة الإسلاميين. إلا إذا أرادت النهضة استخدامهم في الملفات الشائكة مثل التشغيل و المالية بإلقاء مسئولياتها عليهم. لأن النهضة، رغم زغاريد النصر، تقول سرا إنها ارتعبت من انتصارها: كيف ستقدم للتونسيين الجنة التي وعدتهم بها؟" (مارتين غوزلان، ماريان، 5.11.2011). حقا ما أشبه المنصور بالمكسور: كان الغنوشي يريد أن يكون معارضة قوية لحكومة ديمقراطية يمنعها من تنفيذ برامجها مواصلا تقويض كل ما حققته الحداثة التونسية في نصف قرن من انجازات في جميع المجالات. فمنذ عودته إلي تونس غداة الانتفاضة الفوضوية ، شرع هو في تنظيم الفوضي باستخدام جميع أدوات الاحتجاج من مظاهرات و إضرابات و اعتصامات حاملة لمطالب تعجيزية لتدمير الاقتصاد و إفقار الطبقة الوسطي التي تشكل قاعدة الديمقراطية. هذه الديمقراطية المسئولة في نظر الغنوشي عن " الكثير من المظالم و الفواحش، مثل عدوان الشعوب علي بعضها بالاحتلال والاستغلال، و انتشار الفسوق و الفساد و الرّشي و الغش و الضلال التي تستمد شرعيتها من الديمقراطية. ألم تزل أعرق الديمقراطيات، في بريطانيا و فرنسا، تحتفظ بوزارات للمستعمرات(...) و تشرّع للقمار و اللواط و الوأد المعاصر(=تحديد النسل و الإجهاض)؟". ( أزمة الديمقراطية في البلدان العربية.ص42). في بلد محطّم و طبقة وسطي مُفقرة ومتفكّكة، تستطيع النهضة، كمعارضة هدّامة، أن تصول و تجول لتُعيد كتابة التاريخ من جديد، فتعيد البنية القبلية التي حاولت دولة الحداثة البورقيبية تفكيكها بحل " مجالس العروش"(= العشائر)، التي كانت تحكم في النزاعات بين أعضاء العشيرة بدلا من القضاء الحديث، و التي اعتبر الغنوشي حلها هو إحدي الخطايا المميتة " التي ارتكبتها دولة الاستقلال" ( انظر بيان الذكري 15 لتأسيس حركة الاتجاه الإسلامي)، و تعيد مؤسسة الأوقاف و القضاء الشرعي و التعليم الديني التقليدي، جامع الزيتونة، الذي كان إلي عشية غلقه يدرّس تلامذته أحكام العبد الآبق(= العبد الهارب من خدمة سيده) . هذه المؤسسات جميعا حلها بورقيبة في 1957. باختصار، أراد الغنوشي أن يتمتع بعام أو عامين من المعارضة الراديكالية ليطوي صفحة الحداثة التونسية و يدفن مشروعها إلي الأبد ليقيم علي أنقاضها المؤسسات التقليدية التي حلّتها دولة الحداثة بالقضاء علي دولة الحداثة و الأدوات التي حدّثت بها: التعليم و الإعلام و الاقتصاد و الثقافة و القانون. خصوصا قانون الأحوال الشخصية الذي دشّن بكل قوة انطلاق الحداثة التونسية التي هي اليوم جريحة لكنها ليست قتيلة. جرائم دولة الاستقلال كما يعددها الغنوشي: "-1 ولدت الحركة الإسلامية في تونس ممثلة في خطها العريض في السبعينيات ب"الجماعة الإسلامية" و في الثمانينيات "حركة الاتجاه الإسلامي" ثم "حركة النهضة"، ولدت من رحم المجتمع التونسي لتلبي طلبا ملحا للهوية تولّد لديه جرّاء تجربة تحديثية علمانية متطرفة بل مغشوشة قادتها دولة الاستقلال، بزعامة متولهة بنموذج فرنسي يعقوبي علماني متطرف، استهدف بالتفكيك و التقويض المجتمع الإسلامي العربي الموروث، عقائد و شعائر و قيما و مؤسسات، (...) مسخرا من أجل فرض نموذجه أدوات الدولة الحديثة عبر التعليم و الإعلام و القانون و الثقافة و الاقتصاد...، فكان من ذلك شطب المؤسسة الزيتونية العتيدة (...) و المنتجة لأجيال من العلماء و الأدباء و القضاة... و نسف القضاء الشرعي و تفكيك مؤسسة الوقف العتيدة التي كانت تستوعب حوالي ثلث الملكية في البلاد لخدمة المجتمع و سندا لمؤسساته و لقوّته، مما جرّده من كل نفوذ مقابل تغوّل الدولة متحكما وحيدا في مستقبله، و بلغ الهجوم حد الدعوة لانتهاك حرمة الصوم... و استباحة الزنا و الخمور و القمار، و تجريم زي الحشمة و التقوي، و التصدي بقوة الدولة و الحزب الواحد، المتماهيين مع الزعيم المتأله، لكل صوت معارض." (المصدر راشد الغنوشي، الذكري ال 29 لحركة الاتجاه الإسلامي، الجزيرة نت24.05.2010). هذا مشروع الغنوشي الإسلامي كما وضّحه قبل7 شهور من اندلاع الانتفاضة التي أعادته إلي تونس ظافرا ليحقق حلمه بنسف "الدولة العلمانية الوثنية" كما يصفها ونسف مشروعها" التحديثي العلماني". رسم الغنوشي في كتابه " الحريات العامة في الدولة الإسلامية"(بيروت1993) معالم المشروع الإسلامي النقيض المباشر للمشروع العلماني التونسي و دولته الوثنية:" هذه النظرة الشمولية للإسلام هي التي كانت قد انحسرت خلال عصور الانحطاط (...) بما أقام في حياة المسلمين و بالخصوص في ظل الاحتلال الغربي و تحت تأثيره من ثنائيات مباينة لعقيدة التوحيد، و فرض العلمنة علي حياتهم الجمعية(...) ذلك هو الانحطاط من وجهة النظر الإسلامية الجامعة وهو الجذر الأساسي لتخلف المسلمين.إن الفكرة الرئيسية في الإصلاح الإسلامي (...) منذ سقوط آخر شكل للخلافة الإسلامية(...) هي مقاومة هذه الدهرية بتعبير الأفغاني أو الفُصام النكد بتعبير الشهيد سيد قطب : الانفصال بين العقيدة و الحياة بين العبادة و المعاملة بين المسجد و السوق بين الدين و الدولة. مقاومة هذا الفصام النكد عودا بالدين إلي أصله التوحيدي. الفكرة الرئيسية في المشروع الإسلامي نقيضا للوثنية كما يترجمها المشروع العلماني المقابل: تهميش الدين و إقصاؤه عن صراعات الحياة. إن التصدي لهذه الفكرة الأساسية في المشروع العلماني من أجل استعادة الوصل بين الدين و الحياة و قيادة الدين للحياة هو جوهر المشروع الإصلاحي الإسلامي (...) وهو ما يطلق عليه بعض الدارسين الاستثناء الإسلامي.انه بمقدار ما تنحسر فكرة العلمنة و التحديث العلماني لصالح تحديث إسلامي بقدر ما تعتبر الحركة الإسلامية (الإسلام السياسي) في تقدم و صعود، و ذلك أن الإسلام التعبدي لم يكن قط موضع نزاع إلا لدي بعض الزعماء العلمانيين المغرورين مثل بورقيبة الذي انتهك حرمة الصيام جهارا حاملا شعبه علي ذلك و تحدي خلفاؤه شعائر و قيما إسلامية أخري مثل الصلاة و الحجاب". قد لا أكون علي قيد الحياة في رمضان القادم، لذلك أقترح منذ الآن علي رئيس أول حكومة إسلامية في تونس، حمادي الجبالي، أن يفتي للعمال بالإفطار في شهر رمضان، الذي كان دائما كارثة علي الاقتصاد، ولاسيما أن الاقتصاد التونسي منطرح أرضا و يحتاج إلي 5 سنوات علي الأقل ليعود إلي مستواه في 2010، وفواجع الشغل تتضاعف وتتضاعف خطورتها كما عاينتُ ذلك في الجزائر سنة 1963؛الصيام هو سبب التغيب عن العمل و هبوط الإنتاج و الإنتاجية و زيادة الاستهلاك بمعدلات جنونية. في 1969 نشر محمد حسنين هيكل في الأهرام: مصر تخسر في رمضان 100 مليون يوم عمل! أما كوارث الصيام الصحية فحدِّث و لا حرج: يحتاج الإنسان، لسلامة الكليتين و البروستاتا، إلي شرب كأس ماء كل نصف ساعة و الحال أنه لا يشرب قطرة ماء خلال 15 ساعة في شهر أغسطس مثلا. أغلقتُ القوسين. كان الغنوشي في حاجة إلي فترة كافية من المعارضة لمسح طاولة الحداثة التونسية. لكن التاريخ نصب له كمينا حارما إياه من هذه الفرصة الذهبية، مقدِّما له بدلا من ذلك "دولة الحداثة الوثنية"علي صفيحة حامية لا يستطيع الجلوس عليها و لا يستطيع رفض الجلوس عليها، فلجأ إلي حيلة ذكية: أن يجلس عليها بدلا منه وزراء تقنوقراطيين و تكتليين يأكل الشوك بأفواههم بتحميلهم و أحزابهم -أمام الناخبين- فشل الحكومة الإسلامية في حل مشاكل البطالة التي تضاعفت(مليون عاطل في نهاية العام و كانوا في 2010 نصف مليون فقط!)، ومشاكل الأزمة الاقتصادية المستعصية وغيرها من المشاكل " التي لا حل لها في الفقه الإسلامي، الذي ليس فيه إلا الطهارة و الصلاة...لا مالية و لا اقتصاد و لا طب..."كما صرح الترابي محذّرا الغنوشي و بديع من فخ أخذ الحكم في كل من تونس و مصر. الترابي هنا لا ينطق عن الهوي! فقد جرّب حكم السودان بالإسلام 11 عاما فدمّر بلده و دمر معه مصداقية الإسلام ليس كدين و دولة فحسب، بل كدين-مجرد دين-! حذّر الترابي الغنوشي، خوفا عليه وعلي الإسلام، من أخذ السلطة، فيأتي تقنوقراطيو حكومة الباجي قايد السبسي و علمانيو التكتل لإنقاذه من فخ انتصاره الانتخابي و الوقوع فيه نيابة عنه -بعد عام- إذا لم يلجأ الغنوشي إلي تمديد فترة التأسيسي. سيحاسبهم الناخبون حسابا عسيرا علي فشلهم المتوقع في حل-بل حتي في العثور علي بداية حل- لمشاكل البطالة و التضخم و استفحال الفقر و انهيار الخدمات... و في المقابل سيقول الغنوشي لناخبيه: إنني بريء من أخطاء التقنوقراطيين و العلمانيين...إنني أخاف الله رب العالمين! من مصلحة أجيال تونس الحاضرة و المقبلة ترك الغنوشي يجرّب ، خلال الفترة الانتقالية، تطبيق مشروعه الإسلامي غير القابل للتطبيق في القرن21 ؛ فشله قد يساعد قيادات و كوادر النهضة الأقل جمودا ذهنيا علي الإقلاع عن تعاطي أفيون الأوهام الدينية وعن محاولة استنساخ التجربتين الفاشلتين الإيرانية و السودانية للالتحاق أخيرا بتجربة تركيا الإسلامية:" ضرورة مصالحة الإسلام مع الحرية و الديموقراطية و العلمانية" كما قال الطيب اردوغان و مع صناعة القرار بالمعاهد العلمية المتخصصة كما يقول كاتب هذه السطور. أيها الديموقراطيون لا تتواطؤوا مع أعداء الحداثة التونسية. لكن التزموا إزاء حكومتهم بمعارضة مسؤولة تُشجع كل ما هو ايجابي في سياستهم و تنتقد كل ما هو سلبي فيها. وألا يصوّتوا لإسقاط حكومة الغنوشي طوال فترة الانتقال. هذا هو في نظري القرار الواقعي و العقلاني. قيل لي إن أئمة النهضة في الجمعة التالية للانتخابات حثّوا المصلين علي إنهاء الإضرابات و الاعتصامات...عكس ما كانوا يفعلون قبل الانتخابات. وهذه بادرة ايجابية جديرة بالتشجيع.