عن مركز الأهرام للترجمة والنشر صدرت «الأيام» بأجزائها الثلاثة في مجلد واحد عام 1992، وقام الفنان القدير عبدالسلام الشريف بتصميم الغلاف: «الأيام وصاحب الأيام بحروف داكنة الصفرة.. ونقطتا حرف ياء الأيام دائرتان كبيرتان من النور وسط لون الغلاف الأسود» وكأن هاتين الدائرتين عينان بصيرتان قاهرتان لهذا الظلام.. هكذا ترجم عبدالسلام الشريف كل حياة طه حسين في بساطة ووضوح وعمق.. يقدم هذه الطبعة الأولي محمد حسن الزيات بهذه الكلمات التي كتبها يوم 14/11/1991: «لو أن طه حسين قد كتب له أن يعيش حتي الرابع عشر من نوفمبر هذا العام (1991) لكان قد بلغ من العمر مائة عام وعام.. وهذه هي المناسبة التي تصدرت فيها مؤسسة الأهرام هذه الطبعة من رائعته «الأيام» بأجزائها الثلاثة متصدرة بالمقدمة التي كان قد أملاها بنفسه لطبعة «برايل» الخاصة بالمكفوفين، والتي لم يسبق نشرها بالحرف العربي قبل الآن». يقول طه حسين (1890 - 1973) في المقدمة «هذا حديث أمليته في بعض أوقات الفراغ، لم أكن أريد أن يصدر في كتاب يقرأه الناس، ولعلي لم أكن أريد أن أعيد قراءته بعد إملائه، وإنما أمليته لأتخلص بإملائه من بعض الهموم الثقال والخواطر المحزنة التي كثيرا ما تعتري الناس بين حين وحين» وفي بساطة آسرة يتحدث إلي المكفوفين» والذين يقرأون هذا الحديث من المكفوفين، سيرون فيه حياة صديق لهم في أيام الصبا تأثر بمحنتهم هذه قليلا قليلا حين عرفها، وهو لم يعرفها إلا شيئا فشيئا حين لاحظ ما بينه وبين إخوته من فرق في تصور الأشياء وممارستها، وقد تأثر بهذه المحنة تأثرا عميقا قاسيا، لا لشيء إلا لأنه أحس من أهله رحمة له وإشفاقا عليه، وأحس من بعض الناس سخرية منه وازدراء له، ولو قد عرف أهله كيف يرعونه دون أن يظهروا له رحمة أو إشفاقا، ولو قد كان الناس من رقي الحضارة وفهم الأشياء علي حقائقها، بحيث لا يسخرون من الذين يعتريهم بعض الآفات، لا يرثون لهم ولا يظهرون لهم معاملة خاصة يتكلفونها تكلفا، لو قد كان من هذا كله، لعرف الصبي وأمثاله محنتهم في رفق، ولاستقامت حياتهم بريئة من التعقيد، كما تستقيم لكثير غيرهم من الناس» ثم يقول في نهاية هذه المقدمة التي كنت أرجو أن أنقلها للقارئ كاملة لما حوته من وعي وصدق وشجاعة.. «والمهم هو أن يلقي الإنسان حياته باسما لها لا عابسا، جادا فيها لا لاعبا، وأن يحمل نصيبه من أثقالها ويؤدي نصيبه من واجباتها، ويحب للناس مثلما يحب لنفسه، ويؤثر الناس بما يؤثر به نفسه من الخير، ولا عليه بعد ذلك أن تثقل الحياة أو تخف، وأن يرضي الناس أو يسخطوا، فنحن لم نخلق عبثا، ولم نترك سدي، ولم نكلف إرضاء الناس عنا، وإنما خلقنا لنؤدي واجباتنا وليس لنا بد من تأديتها، فإن لم نفعل فنحن وحدنا الملومون وعلينا وحدنا تقع التبعات». أملي طه حسين هذه المقدمة في 15 ديسمبر 1954. يحدثنا طه حسين في الكتاب الأول عن طفولته وصباه في قريته - ولا أدري لماذا لم يذكر اسمها - حتي بلوغه الثالثة عشر وانتقاله إلي القاهرة للالتحاق بالأزهر، أما الأزهر.. دراساته ودروسه والشيوخ والزملاء وحي الأزهر بشوارعه وحاراته وأزقته.. هذا كله هو موضوع ومضمون الكتاب الثاني.. أما الكتاب الثالث فموضوعه الرئيسي أو لحنه السائد فهو الجامعة المصرية.. عن الأساتذة الأجانب والمصريين في هذه الجامعة المصرية وعن الدروس والمحاضرات وعن الزملاء وعن السفر إلي باريس.. وعن الزواج وعن السياسة.. عن هذا كله تدور أحداث ووقائع الكتاب الثالث من «الأيام». ولا أدري لماذا أميل إلي اعتبار الكتاب الأول أهم وأخطر وأغني بل وأجمل هذه الكتب.. أشعر أن طه حسين كتبه بكل قلبه وبكل حنينه وبكل حنانه.. وأيضا بكل ما عنده من قسوة ساخرة بهذا الجو الريفي الذي عاشه في طفولته وفي صباه. من اللحظة الأولي في أول يوم من أيام طه حسين يقدم لنا كيف يري الكفيف وكيف يحس ويشعر بما حوله وبمن حوله.. كيف يري ويحس ويشعر بأذنيه وبكل جسمه وبكل حواسه الأخري.. يقول «لا يذكر لهذا اليوم اسما، ولا يستطيع أن يضعه حيث وضعه الله من الشهر والسنة، بل لا يستطيع أن يذكر من هذا اليوم وقتا بعينه، و إنما يقرب ذلك تقريبا.. وأكبر ظنه أن هذا الوقت كان يقع من ذلك اليوم في فجره أو في عشائه، يرجح ذلك لأنه تذكر أن وجهه تلقي في ذلك الوقت هواء فيه شيء من البرد الخفيف الذي لم تذهب به حرارة الشمس، ويرجح ذلك لأنه علي جهله حقيقة النور والظلمة، يكاد يتذكر أنه تلقي حين خرج من البيت نورا هادئا خفيفا لطيفا كأن الظلمة تغشي بعض حواشيه، ثم يرجح ذلك لأنه يكاد يذكر أنه حين تلقي هذا الهواء وهذا الصفاء، لم يأنس من حوله حركة يقظة قوية، وإنما آنس حركة مستيقظة من نوم أو مقبلة عليه..».. هكذا أدخلنا طه حسين إلي دنيا أيامه وإلي عالم أحاسيسه ومشاعره.. ثم يقدم لنا هذه الدنيا التي عاشها منذ طفولته بكل قلبه وبكل حواسه.. دنيا الأدب الشعبي... وأنا أري أن هذا الأدب الشعبي هو العنصر الأول والأساسي في تكوين طه حسين الوجداني والأدبي.. وهو يستمع إلي «صوت الشاعر قد جلس علي مسافة من شماله، والتف حوله الناس، وأخذ ينشدهم في نغمة عذبة غريبة أخبار ابي زيد وخليفة ودياب، وهم سكوت إلا حين يستخفهم الطرب أو تستفزهم الشهوة يستعيدون ويتمارون ويختصمون، ويسكت الشاعر حتي يفرغوا من لغطهم بعد وقت قصير أو طويل، ثم يستأنف إنشاده العذب بنغمته التي لا تكاد تتغير» لقد تأثر الطفل أعمق التأثر بصوت هذا الشاعر الشعبي بما كان يردده من مواقف ومعارك أبطاله.. ويحدثنا طه حسين عن ذاكرة الأطفال بل عن الذاكرة عموما «ولكن ذاكرة الأطفال غريبة، أو قل إن ذاكرة الإنسان غريبة حين تحاول استعراض حوادث الطفولة، فهي تتمثل بعض هذ الحوادث واضحا جليا كأن لم يمض بينها وبينه من الوقت شيء» ومن هذه الذكريات الباقية في وضوح وجلاء «نغمات حسن الشاعر يتغني بشعره في أبي زيد وخليفة ودياب، حين يرفع الماء بشادوفه يسقي به زرعه علي الشاطئ الآخر للقناة».. وهذا يؤكد هذا الأثر أو هذه الآثار التي أحدثها الأدب الشعبي ونصوصه وأبطاله في نفس طه حسين.. طفلا.. رجلا.. وأديبا.