منذ تولي الرئيس بشار الأسد السلطة عام 2000، مازال التباين والمنافسة وربما التناقض قائماً بين أسلوبين في التعامل مع المعارضين، أحدهما الأسلوب الأمني التقليدي، الممثل بالقمع والاعتقال، والأحكام الجائرة علي الناشطين، والتضييق علي الحريات، ورفض الرأي الآخر، وعدم الحوار معه، واتهامه بالتآمر والتواصل مع الخارج والخيانة. وثانيهما الأسلوب السياسي الحواري، الذي يمارس الحوار مع التيارات السياسية المعارضة، والا ستماع لآرائها ومناقشتها، والتعامل معها كشرائح اجتماعية وسياسية وطنية لها وجهات نظر مخالفة، أي في الخلاصة بين الأسلوب الأمني الذي يتناسب مع دولة أمنية والأسلوب السياسي الذي يتواءم مع مقومات الدولة الحديثة. عندما تولي الرئيس الأسد السلطة، ألقي كلمة (هي في الحقيقة بياناً) أمام مجلس الشعب قبيل أن يقسم اليمين الدستورية، أشار فيها إلي جملة من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية المهمة جداً، ووضع يده علي الخلل القائم في المجتمع والدولة، ووعد بتحديث الدولة في مختلف جوانب الحياة، والعمل بسيادة القانون، وإطلاق الحريات، وفصل السلطات، ومقاومة الفساد، وسماع الرأي الآخر واحترامه، وإطلاق إمكانيات الرقابة علي الدولة ومؤسساتها وعلي الحكومة، سواء من خلال وسائل الصحافة والإعلام أم من خلال الرقابة الشعبية المباشرة، ومراقبة مؤسسات المجتمع المدني وغيرهما، وقد تفاءل الشعب السوري، علي مختلف تياراته السياسية والاجتماعية خيراً، واعتقد أشد الناس تشاؤماً أن النظام بدأ مسيرة الإصلاح، ورأت الأحزاب والتكتلات السياسية الموالية والمعارضة، أعني أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية (وهي المعارضة في النظام) والأحزاب المعارضة الأخري (المعارضة من خارج النظام) والناشطين السياسيين، كما تفاءل المثقفون السوريون، وبدأ حراك سياسي جديد وفعال في سورية عبر عن نفسه بتأسيس ما سمي بالمنتديات ومنظمات المجتمع المدني، حيث تم افتتاح عشرات المنتديات والمنظمات في المدن السورية، وألقيت فيها محاضرات سياسية واقتصادية ومن كل صنف ولون، كان يحضرها مئات الناشطين، وسمحت السلطات بهذا النشاط وازداد الحراك وتنامت فعاليته، وسميت هذه النشاطات (ربيع دمشق) واستمرت مزدهرة طوال عام (2001) وسمحت السلطة لبعضها بالعمل سنوات أخري، وكان واضحاً أن النظام السياسي اعتمد الأسلوب السياسي في التعامل مع المعارضة ومع القضايا المطروحة، إلا أن هذا الربيع لم يستمر، فانقضّت أجهزة الأمن علي الناشطين واعتقلت من اعتقلت وأغلقت معظم المنتديات، وتحول حراك الناشطين إلي حراك نصف سري، وكان التعامل أمنياً بالدرجة الأولي، إلا أنه لا يخلو من جوانب حوارية وسياسية. واستمر الأمر كذلك حتي عام 2005، حيث أغلق آخر المنتديات (منتدي جمال الأتاسي) وسجن مجلس إدارته وأطلقت يد القوي الأمنية في التعامل مع الناشطين، فأصبح الاستدعاء للتحقيق، والمنع من السفر، والاعتقال، والمحاسبة علي الرأي مهما كان ليناً في معارضته، هي السياسية السائدة، وغدت الأداة الأمنية هي اليد العليا والفعالة، وتراجع الأسلوب الحواري والسياسي حتي كاد أن يتلاشي. ورغم ذلك فإن شعارات الإصلاح لم تمت ولم تتلاش، فقد أقر المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث، الذي عقد عام (2005) قرارات إصلاحية مهمة جداً، منها إصدار قانون الأحزاب، والمطبوعات، وترشيد قانون الطواريء، ومكافحة الفساد وغيرها من القرارات الأساسية، مما أوحي أن أسلوب التعامل السياسي عاد فانتعش علي حساب الأسلوب الأمني، إلا أن هذه القرارات بقيت حبراً علي ورق، ولم ينفذ منها شيء، وعاد الأسلوب الأمني لينتصر من جديد، ويضرب عرض الحائط بمطالب الشعب ومطالب المعارضة والحوار والحرية والديموقراطية، والإصلاح وغيرها، وقد تضخم هذا الأسلوب الأمني وتغوّل، حتي باتت الأجهزة الأمنية تستسهل اعتقال من ينبس ببنت شفة، أو يقول رأياً آخر مهما كان حليماً، باتهامات مضحكة (مثل إضعاف الشعور القومي أو التسبب في وهن الأمة وما يشبه ذلك) ووضعت ناشطين من إعلان دمشق (يضم عدة أحزاب وتجمعات وشخصيات معارضة) في السجن وحاكمتهم بالحبس سنتين ونصف السنة لمجرد أنهم اجتمعوا، مع ملاحظة أن المعارضة السورية لم تطرح طوال السنوات العشر، أي شعار متطرف، ولم تخرج مطالبها علي المطالبة بإصلاح النظام، حتي أن إعلان دمشق تمني علي حزب البعث التعاون مع تياراته لتحقيق الإصلاح معاً. لقد صارالوضع حساساً وحرجاً في البلدان العربية منذ بضعة أشهر، بعد ما جري في تونس ومصر وغيرهما، ورغم ذلك يبدو أن النظام السوري مازال يصر علي اتباع الأسلوب الأمني في التعامل مع المعارضة، ولعل هذا يزيد المشكلة مشاكل وصعوبات، وباتت الخشية الحقيقية أن يكون الأسلوب الأمني انتصر كلياً علي الأسلوب السياسي في تعامل النظام السوري مع المعارضة، مما يزيد التناقض تناقضاً والاحتقان احتقاناً.