يتصدى هذا المقال لإيضاح الآثار السلبية التي تركت الليبرالية الجديدة بصماتها على ثقافات الشعوب؛ في محاولة « بائسة « لمسخها، و إحلال الأنموذج الثقافي الإمبريالي محلها؛ تحت دعاوي « العلمنة « الزائفة.إذ من المعلوم بداهة أن التحكم في الاقتصاد العالمي كان ولابد أن يسفر عن هيمنة الغرب الإمبريالي على مجريات السياسة؛ كما أوضحنا في مقال سابق.كما أسفر أيضاً عن آثار اجتماعية وبيلة بالنسبة للشعوب التابعة؛ كما أوضحنا في مقال آخر. أما عن طمس وتغيير ثقافات تلك الشعوب؛ فإن تحقيقه ليس بالأمر الهين؛ على الرغم من صدق قول ابن خلدون بأن « المغلوب يميل إلى محاكاة ثقافة الغالب « .ذلك أن الهويات الوطنية_التي هي شخصانيات الشعوب_إنما هي نتاج عوامل شتى؛ جغرافية وتاريخية ودينية تفاعلت خلال عصور طويلة من الزمان، و تراكمت لتبلور في النهاية هويتها ذات الملامح والقسمات الخاصة التي تميز بعضها عن البعض الآخر؛ برغم وجود قواسم مشتركة بينها جميعاً نتيجة « الأنسنة « . مع ذلك؛ لم تدخر القوى الإمبريالية وسعاً في مواصلة الجهود لمسخ هويات الشعوب على الأقل، و العمل على استئصال شأفة ما تتضمنه من جوانب إيجابية؛ فضلاً عن ترسيخ خصائصها السلبية. صراع الحضارات من مظاهر ذلك؛ طرح دعوى « غربية « مزعومة عن « صراع الحضارات « ؛ أو « الثقافات « حسب تعبير بعض منظريها؛ و إن تراجع بعضهم_من أمثال فوكوياما_نظراً لما وجه إليه من انتقادات لاذعة.ذلك أن العلاقة بين الثقافات في جوهرها هي علاقة أخذ وعطاء وتأثر وتأثير ليس إلا؛ فيما اصطلح عليه باسم « المثاقفة « . في هذا الصدد؛ نعلم أن المثاقفة لا تتم بالفرض المتعسف والإكراهات والضغوط؛ بقدر ما تنجم عن طبيعة سنن التطور، و العمران البشري، و الارتقاء الإنساني.و إذا جاز حدوث بعض التأثيرات عن طريق الإكراهات؛ فإن حدوثها مرهون بمدى ما تتضمنه ثقافة المؤثر من إيجابيات ذات بعد « هيموماني « محمود.و هو ما أشار إليه القرآن الكريم في الآية: « إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم « .هذا « التعارف « هو ما أشرنا إليه بآلية « المثاقفة « ، أو ما أسماه المرحوم محمد أركون « المشترك الإنسي العام « .فماذا عن ثقافة الليبرالية الجديدة، أو بالأحرى ثقافة الرأسمالية المتوحشة في طورها الإمبريالي الحالي؟ سبق لنا عرض بعض معالم ثقافة الرأسمالية في طورها البرجوازي؛ و هو ما يطلق عليه « ثقافة الحداثة « التي تتسم بإيجابيات « الهيومانية « و الحرية_بمفهومها الواسع_و العقلانية والتفكير العلمي النقدي والتجريبي…إلخ؛ و هي إيجابية بطبيعة الحال.لذلك انتشرت في كافة أرجاء العالم؛ طواعية ودون إملاء. على العكس؛ تنكرت الليبرالية الجديدة لتلك الخصائص_و إن أبقت عليها شكلاً_أو بعبارة أخرى أفرغتها من مضامينها.و الأنكى؛ هو ما أضافته إليها من رموز غامضة، و خدع مبهرة وشرور مدسوسة في العسل.و هو ما تعمل القوى الغربية الكبرى على الترويج لها باسم « ثقافة ما بعد الحداثة « . ماذا بعد الحداثة أولاً: التشكيك في كل الإنجازات الإنسانية السابقة_بما فيها ثقافتها في طور الحداثة_باعتبارها أغلالاً تقيد مبدأ الحرية المطلقة.ّّ ثانياً: تقسيم المعارف إلى « علم نافع « ؛ يتمثل في التكنولوجيا_على نحو خاص_و آخر « ثانوي « ؛ كالعلوم الاجتماعية والإنسانية.و بصددها؛ تعامت عن رؤية إنجازاتها؛ بل عولت على دحضها لا لشيء إلا لأنها ذات مرامي إنسانية ومقاصد تقدمية؛ كما هو الحال بالنسبة للفكر الاشتراكي؛ على سبيل المثال.بل من أجل ذلك؛ جرى ابتداع نظريات بديلة؛ كالبنيوية الوظيفية والتفكيكية؛ بهدف نفي حقيقة قانون « الصراع الطبقي « ؛ و إن جرى الاعتراف بنظام الطبقات وترسيخه على أساس أن لكل طبقة وظيفة محددة؛ و بأدائها يحدث الانسجام والتكامل؛ لا الصراع . كذا تشظية المعرفة إلى جزيئات « ميكروسكوبية « بهدف التعمية والحيلولة دون النظرة الشمولية « الماكروسكوبية « ؛ لا لشيء إلا لكونها تعمل عملها في إذكاء الوعي.و ذلك بحجة أن « الأصوليات « و الأحكام المطلقة تجافي حقائق العلم!! لذلك نجد معظم مؤرخي الإمبريالية المعاصرين يكتفون_في كتابة التاريخ كوقائع سردية وصفية ليس إلا_و يحرمون آليات التعليل والتفسير والتنظير؛ باعتبارها_في نظرهم_تقود المؤرخ إلى الأهواء الإديولوجية التي تفت في مصداقية المعرفة.ّّ في هذا الصدد، و بهدف " التضبيب " و الحيلولة دون التوصل إلى الحقائق الموضوعية؛ ثمة دعوات_غاية في الغرابة_إلى عدم التوسل بالمناهج العلمية في البحوث والدراسات الأكاديمية؛ لأنها_في نظرهم_تحد من توظيف ملكات الباحثين وقدراتهم " الخاصة " ..!! كيل بمكيالين ثالثاً: الإلحاح على " التعددية " _فيما يتعلق بالمجتمعات الإمبريالية_و محاولة نفيها بالنسبة لثقافة الشعوب التابعة؛ و هو تأكيد لمعيار " الكيل بمكيالين " الغاشم.و هو ما يتعارض_بداهة_من الدعوة إلى " العولمة " المشبوهة.كذا الإلحاح على مبدأ " النسبية " بدرجة تكشف عن مقاصد مشبوهة؛ أهمها ترسيخ " العدمية " كنهج لذيوع الفوضى " الخلاقة " ؛ بما يضمن إعادة ترسيم خريطة العالم إلى قسمين؛ الدول الإمبريالية الكبرى المهيمنة، و الكيانات الصغرى الدينية والطائفية والإثنية التابعة. تلك الدعاوى " الغرائبية " التي يتشدق بها الليبراليون الجدد من أجل تضبيب الثقافة وتكريس التخلف؛ لا لشيء إلا لإطالة عمر النظام الرأسمالي " المتوحش " .لذلك لم يخطئ المفكر " كلارك " حين وسم ووصم الليبرالية الجديدة بأنها عودة إلى نظرية " المركزية الغربية " المأسوف عليها.تلك التي تقصر الإبداع الحضاري والأنموذج الثقافي المثالي على الغرب؛ بينما الشعوب الأخرى محض برابرة يجب أن يظلوا_إلى الأبد_عبيداً؛ حسب مقولة أرسطو الكاذبة: " لكي يوجد مجتمع حر؛ فلابد أن يقوم على خدمته آخر مسترق " .و هو ما تكرسه الفلسفة الرأسمالية المعاصرة المؤسسة على " النفعية " المستغلةو " البراجماتية " اللا أخلاقية. لنحاول أخيراً تشخيص " الحالة " المصرية الثقافية في ظل " العولمة " . إذ لا يتسع المجال للشرح؛ نكتفي بإيراد بعض السمات العامة_في إيجاز_على النحو التالي: على الرغم من رسوخ مقومات الشخصانية المصرية؛ فقد مستها رياح التغيير_المؤقت فيما نرى_القادمة من الغرب من ناحية، ومن الخليج من ناحية أخرى.يظهر ذلك جلياً في الخلل الذي شاب الذوق العام؛ سواء في اللباس أو المسكن أو حتى في المأكل والمشرب.و حسبنا ذيوع الكلمات الأجنبية على ألسنة بعض المثقفين " التغريبيين " ؛ من باب " الفرنجة " .بل امتدت الظاهرة لتشمل الطبقات الدنيا؛ كما هو الحال في إطلاقها على أسماء المطاعم والمقاهي وغيرها.كذا ظاهرة التأثر في بناء المنازل والعمارات الكبرى بالنمط الخليجي، ناهيك عن اللباس الخليجي؛ خصوصاً جماعات السلفيين المتمذهبين بفكر " الوهابية " البدوي. مسخ القرية المصرية ونسخ هويتها؛ نتيجة مؤثرات مأخوذة عن الغرب أو دول الخليج بالمثل.وأنوه بأن أحد العمال العاملين في السعودية بنى بيته على غرار البيت السعودي، و رفع فوقه العلم السعودي، و سمى أحد أبناءه " فهد " ؛ و قد كتبت قصة قصيرة تتضمن هذا المعنى منذ عشرين عاما..!!.. والأهم والأخطر؛ تخلي الكثير من القرويين عن قيم " المشاركة " في الأفراح والأتراح، و " التكافل الاجتماعي " و غيرها من الفضائل التي كانت نتاج مجتمع فلاحي لتسود نزعة " الفردانية " بصورة مزعجة_حتى بين أفراد الأسرة الواحدة_لتؤكد ما كتبه أستاذنا القدير د.حامد عمار عن " الشخصية الفهلوية " .ناهيك عن انتشار الأغاني والموسيقى الخليجية_و حتى التشنجات العصبية_ " الراب " _ في أغاني الغرب الإمبريالي_و تلك المصرية " الساقطة " المسماة " شعبية " في مقاهي القرية..!! إذا كانت تلك الظواهر السلبية تتعلق بالطبقات الشعبية المهمشة؛ نتيجة " سياسة الانفتاح الاقتصادي " ؛ فضلاً عن تأثير أجهزة الإعلام المبهورة بالأنموذج الأمريكي_على وجه الخصوص_فإن تأثير " أدعياء " الليبرالية الجديدة على " النخبة المثقفة " أشد وأنكى.و حسبنا الإشارة إلى الكثير من النتاج الأدبي والفني الممسوخ والمتحذلق؛ لا لشيء إلا لتعبيره عن ثقافة " ما بعد الحداثة " في مجتمع ما فتئ يعارك مشكلاته اليومية الأولية.فظاهرة " الغموض " في الأدب_خصوصاً في الشعر؛ و بالذات في بدعة قصيدة النثر_لا تعبر إلا عن ضحالة معرفية، و تقليد أعمى؛ باسم الإبداع و " تكسير " القوالب الموروثة عن العصر الجاهلي..!! لعمري أنها محض " بدع " تعبر عن " جاهلية مرتجعة " . تلك محض إشارات ومؤشرات أزعم أنها محض " تقاليع " عابرة؛ أفرزتها أربعة عقود " غابرة " بالمثل في تاريخ طويل حافل بمفاخر الثقافة المصرية الثرية، و المؤسسة على رصيد حضاري هائل وجامع للعصور الفرعونية والقبطية والإسلامية، و هاضم لثقافات الشرق الأدنى القديم، و تراث اليونان والرومان، و مبدع لثقافة عتيدة وتراكمية مميزة القسمات الجامعة بين العقل والوعي والضمير والعطاء الإنساني اللا محدود. لذلك؛ أجزم بأن موجتي الثورة المصرية_في 25 يناير و30 يونيو_قمينة بأن تطهر بنارها المقدسة روح مصر الذهبية من شوائب وأدران " صفيح " زمن الظلام العنكبوتية؛ لتسطع شمس " آمون " كعادتها مضيئة سماء الكنانة وديار العروبة والإسلام. والغد لناظره قريب و ليس ذلك على شعبها بغريب، و لا على الله ببعيد.