من المقرر أن يستأنف الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة جولة ثانية من المفاوضات نحو إقامة أكبر اتفاق للتجارة الحرة على مستوى العالم .كانت المحادثات بشأن الاتفاقية التي تعرف باسم "اتفاقية التجارة عبر الأطلسي والشراكة الاستثمارية" قد تحدد لها موعدا في شهر أكتوبرالماضى، لكنها تأجلت بسبب إغلاق بعض المصالح الحكومية الأمريكية في أعقاب أزمة سقف الدين الأمريكي، وتوترت العلاقات بين الجانبين بعد ظهور تقارير تزعم أن الولاياتالمتحدة تجسست على مكالمات الهاتف المحمول الخاص بالمستشارة الألمانية أنغيلا ميركل. وحث وزير الخارجية الأمريكي جون كيري زعماء الدول الأوروبية على عدم السماح للخلاف بين الجانبين بعرقلة المحادثات . وتساهم الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي بنحو 30 تريليون دولار من الإنتاج العالمي السنوي، وهو ما يمثل نحو نصف إجمالي الإنتاج العالمي. الاتحاد الأوروبي يعتبر أن الاتفاقية من شأنها أن تجلب مكاسب سنوية بنحو 119 مليار يورو للدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، وعددها 28 دولة. ويأمل الطرفان أن يتوصلا لاتفاق قبل نهاية عام 2014. تؤكد تلك الشراكة ان المحور الأطلسى يعد المحور الأساسى بالنسبة للولايات المتحدة، فى القرن الواحد والعشرين، وأسباب ذلك واضحة، وتتمثل فى أن القدرة الإقتصادية والعسكرية الأكبر فى منطقة شمال الأطلسى، ويعيش فى هذه المنطقة أناس ينتمون إلى حضارة موحدة وتراث تاريخى وثقافى عام، كما أنها تمتلك قدرات علمية وتصنيعية هائلة، ويسود اعتقاد راسخ فى واشنطن بأن أمريكا هى دولة أوروبية، وتمثل المهمة الأساسية لواشنطن بعد أنتهاء الحرب الباردة فى ردع أى قوى أنفصالية فى أوروبا والحد من إمكانيات القوى المستقلة، وأصبحت المهمة القومية بالنسبة للولايات المتحدة تتمثل فى إيقاف حدة التنافر فى السياسات والبرامج بينها . يبلغ تعداد العالم الغربى ( حوالى 800 مليون نسمة ) يمثل 13 % من حجم السكان العالمى، وطبقاً للتوقعات فإن هذا العدد فى التناقص، حيث سيصل إلى 10 % فى عام 2020 ( وبذلك ياتى فى مرتبة متأخرة بعد كل الحضارات الصينية والهندية والإسلامية ) الا أن هذه الكتلة البشرية ستكون الأكثر علما وتسلحاً بالتكونولجيا. ويخدم فى صفوف جيوش الدول الغربية قرابة الثمانية ملايين جندى مجهزين بأحدث المعدات العسكرية، وتمثل بذلك أقوى تكتل عسكرى فى العالم . وعلى مدى عام تقريباً ظل نصيب الغرب يمثل ثلثى الناتج الصناعى العالمى وبلغ أقصى مدى عام 1928 حيث بلغ 48.2 % ثم أنخفض فى عام 1950 إلى 46% وفى عام 1994 إلى 48.8 % وطبقاً للتوقعات فإنه – ومع حلول عام 2015 سيستمر الانخفاض ليصل إلى 30 % إلا أن الجودة النوعية لهذا النصيب، والتى تعتمد على ما تم تحقيقه من ثورة علمية وتكنولوجية ستكون الأفضل فى العالم . وبين أكبر 500 شركة عالمية فى عام 1999 كان هناك 254 شركة أمريكية و173 شركة تنتمى لدول أوروبا الغربية يمثلون سوياً الأغلبية العظمى . وستظل أمريكا وأوروبا الغربية ولفترة طويلة فى القرن الواحد والعشرين قلب التكنولوجيا الحديثة والعلم والإنتاج، وتعتمد سياسة الولاياتالمتحدةالأمريكية تجاة أوروبا الغربية على قاعدتين أساسيتين : 1- من خلال حلف الناتو والتواجد العسكرى الأمريكى فى أوروبا الذى يمنحها ميزة السيطرة على أوروبا . 2- من خلال نشاط فروع الشركات والأستثمارات والتجارة فى البضائع عالية التكنولوجيا، حيث تستطيع أمريكا التحكم فى نبض النمو الإقتصادى فى أوروبا . و يأمل الأمريكيون فى ان يحتاج الأوروبيون دائما ً وأبداً إليهم بسبب المخاوف التى يعانون منها، حيث تخشى فرنسا التفوق الألمانى وتخشى ألمانيا من إعادة بناء روسيا لجيشها، فى حين تخشى بريطانيا توحيد القارة دون مشاركتها، ويخشى الإتحاد الأوروبى من مشاكل عدم الإستقرار فى منطقة البلقان وتخشى دول وسط وشرق أوروبا أن تقع بين فكى روسياوألمانيا . وفى أمريكا يسود إحساس كبير بالثقة، والتى عبر عنها بشكل واضح المحلل المتحفظ إيرفين كريستول قائلا " لقد كتب على أوروبا أن تصبح محمية أمريكية ذات سيادة وهمية " . إن أعادة بناء قوة مستقلة فى أوروبا الغربية يجعل مشكلة الأمن التى ماتت إبان الحرب الباردة مشكلة ملحة وحادة . إن واشنطن كانت تريد رؤية أوروبا الغربية واليابان أقوياء بالقدر الكافى الذى يمكنهم من الدعم فى الصراع ضد الإتحاد السوفيتى، ولكنهم لا يريدونهم أقوياء بالقدر الكافى لتحدى أمريكا نفسها وزعامتها العالمية . وما يقلق الولاياتالمتحدة على وجه الخصوص هو إعادة بناء القوة الألمانية وهوم ما يفسر لنا سبب تجسس الولاياتالمتحدةالأمريكية على مكالمات الهاتف المحمول الخاص بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل . إن الولاياتالمتحدة تأمل فى الحافظ على تفوقها الجيوبولتيكى على أوروبا الغربية . إلا أن دروس التاريخ العالمى علمتنا أن الضعفاء يتحدون دائماً ضد القوة المهيمنة . إن سياسة القطب الأوحد – وهى السياسة ذاتها التى أتبعتها مادلين أولبرايت – تلقى مقاومة من قبل حلفاء أمريكا من دول شمال الأطلسى . ولدى العواصم الأوربية الرئيسية مثل برلين ولندن وباريس اعتراضات وإدعاءات ضد زعيم الساحة السياسية العالمية الحديثة . وعلى أمتداد قرن كامل فقدت هذه العواصم الثلاث مكانتها كمراكز عالمية فى سبيل إنشاء العملاق الأطلسى الشمالى، ومن الواضح ان كلاً من العواصم الثلاث الكبرى تبحث عن الطريق لإستراجاع هيبتها وتسعى جادة لرفع الوزن الدولى للأتحاد الأوروبى عن طريق توحيد الجهود وصياغة إستراتيجية خاصة بها . أن السيطرة السياسية والعسكرية الأمريكية على أوروبا تعنى أن نصف اقتصاد العالم تقريبا لن يستطيع معارضة الإرادة الأمريكية، وقد كان توفير تلك السيطرة شيئاً صعباً، حيث إن الاتحاد المنظم والمستقر لم يكن أبداً صفقة مميزة للغرب، كما أن الاتجاهات المعادية لأوروبا فى الإستراتيجية الأمريكية العالمية ليست بجديدة . إن الولاياتالمتحدة التى بناها المهاجرون الذين ألقوا بمشاعر اليأس التى حملوها من العالم القديم من أجل الأمل فى العالم الجديد. وكان رجال الأعمال والسياسيون فى نهاية القرن التاسع عشر يؤمنون بأن أمريكا تمثل المستقبل المأمول والزاهر فى حين أوروبا تمثل الماضى الضعيف . ومن خلال حربين عصالميتين عبر الأمريكيون الأطلسيون لكى يحلوا النزاعات التى لم يستطع الأوربيون أنفسهم حلها . وبعد عام 1945 فإن النصيحة الأمريكية لأوروبا كانت تقول " أفعلوا كما نفعل "، وأسسوا الولاياتالمتحدة الأوروبية التى ستصبح شريكا مخلصاً لأمريكا فى إطار الأتحاد الغربى .