إلي الأمام.. يا بدر! غياب السياسة التعليمية لما يزيد علي ربع القرن.. فتح الطريق أمام كل وزير كي يضع سياسته التعليمية وخططه المستقبلية بالاتفاق مع زوجته! عندما فكرت الحكومة المصرية سنة 1935 في وضع خطة يسير عليها التعليم.. بمراحله المختلفة.. وتتمشي مع النظم السائدة في الدول المتقدمة.. عادت لأهل الاختصاص والخبرة.. واستقدمت اثنين من خبراء التعليم كي ينظر كل منهما في ناحية تخصصه. الخبير الأول بريطاني الجنسية اسمه مان.. وهو مفتش المدارس وكليات المعلمين بإدارة المعارف بانجلترا. والثاني سويسري الجنسية اسمه كلاباريد.. وهو أستاذ علم النفس في كلية العلوم بجامعة جنيف. وفي عددها رقم 140 الصادر في 1 مارس سنة 1936 نشرت مجلة «الرسالة» التي كان يرأس تحريرها أحمد حسن الزيات.. مقالا للمفكر الكبير إسماعيل مظهر.. حول التقارير التي قدمها مستر مان.. ومسيو كلاباريد.. وملاحظاته عليها. وعلي الرغم من مرور 74 سنة علي المقال المنشور بمجلة الرسالة تحت عنوان «التعليم والحالة الاجتماعية».. فإنه لا يزال يخاطب الواقع الذي تعيشه هذه الأيام ونحن في سنة 2010.. ونواجه قضايا الدروس الخصوصية والكتب الخارجية.. وملاحق التعليم التي تصدرها صحف الحكومة.. كي تدمر قدرة الطلبة علي التفكير أو إعمال العقل.. وتسعي لنشر أساليب الحفظ والتلقين.. وتسريب الامتحانات. ففي الوقت الذي يكافح فيه الوزير أحمد زكي بدر.. الكتب الخارجية التي تقتل في الطلبة روح الدرس والتحصيل.. نجد أن صحف الحكومة تتنافس في نشر ملخصات الإجابات النموذجية.. التي غرست في عقول شبابنا ثقافة «الكلفتة».. والوصول للهدف بأقل جهد.. وأكبر عائد.. في درجات الثانوية العامة. ندرة الكفاءات وكانت النتيجة هي ما نحن عليه الآن.. من ندرة في أصحاب الكفاءات والمهارات وانتشاره روح الكلفتة بين الملايين من خيرة شباب هذه الأمة. وحالة التعليم التي نحن عليها الآن.. لم تظهر بين يوم وليلة.. وإنما بدأت وشاعت وانتشرت خلال 30 سنة.. لم تكن لحكامنا خلالها رؤية مستنيرة للتعليم.. وتركت كل وزير وضع رؤيته الخاصة التي يناقشها مع زوجته في الجلسات العائلية.. ثم يضعها مع مساعديه.. الذين هم علي شاكلته محل تنفيذ.. بمباركة وتأييد مجالسنا النيابية الموقرة. كل وزير.. يعلن بعد حلفه اليمين.. عن استراتيجيته الخاصة بالتعليم.. وعن استراتيجيته للثانوية العامة.. وعن خططه لتطوير التعليم الفني.. وعن مجمعات تكنولوجية ومدارس بالمصانع في القاهرة والمحافظات علي غرار فروع سلسلة متاجر «ماكرو» المالية. وكل وزير يتحدث عن عشرة تخصصات جديدة وستة محاور للتطوير وربطه بسوق العمل. وجاء الوزير الجمل بشعار «لا تعليم.. إلا بالمعلم المؤهل» وقال إن المعلم المؤهل له تأثير إيجابي علي تطوير التعليم. وقال إنه ينتظر القرار الجمهوري إنشاء الأكاديمية المهنية للمعلمين.. باعتبارها الحل الحقيقي لجودة التعليم ورفع الكفاءة. وعرفنا في زمن الوزير الجمل ظاهرة تسريب الامتحانات.. وتورط كبار المسئولين في المحافظات وأولادهم وبناتهم في الحصول علي الأسئلة قبل الامتحانات. وذهب الوزير الجمل بما حمل.. وجاء الوزير أحمد زكي بدر باستراتيجيته للتعليم.. وفي مقدمتها مداهمة المدارس.. وضبط الكتب الخارجية ومصادرتها وقال إن الكتب الخارجية تمتص دماء المواطنين.. دون اهتمام بما تتحمله الأسرة المصرية إلخ. ولست.. في هذه السطور بصدد استعراض محاولات الوزراء لإصلاح حال التعليم.. ولا الخطط الاستراتيجية التي قاموا بها.. ولا المؤتمرات التي عقدها الحزب السرمدي لحل مشاكل التعليم.. لسبب بسيط.. هو أننا نعرف الآن النتائج التي أسفرت عنها هذه السياسات العشوائية طوال الثلاثين سنة الماضية والتي لا يختلف أحد علي أنها السبب الرئيسي فيما نواجهه الآن من أزمات. بين الدولة والوزير ابتداء من الطماطم.. والمرور.. والعشوائيات.. والكتب الخارجية والهجرة غير الشرعية.. وظهور صور الأنبياء والرسل في الأضرحة.. والنساء.. وسرقة المتاحف.. والجرائم التي يرتكبها الأطفال.. وتدهور قيم الاعتدال التي ورثناها عن أجدادنا وأفسدها التعليم الهابط. كل هذه الظواهر السلبية.. لم تظهر بين يوم وليلة.. وإنما هي نتاج سياسات استمرت لما يزيد علي ربع القرن ويصفها عاطف عبيد في اعترافاته المنشورة في صحف الحكومة بأنها سياسات قامت علي خطط ومنهج غير مسبوق. والمنهج غير المسبوق.. يعني أنه لا يقوم علي أساس علمي.. وإنما يعتمد علي الفهلوة.. «يا صابت يا خابت».. وها هي الأيام تؤكد أنها خابت بالفعل.. وأصبحنا كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقي! وأعود لمقال إسماعيل مظهر المنشور بمجلة «الرسالة» في التاسع من مارس سنة 1936.. والذي تناول فيه التقارير التي أعدها الخبيران.. مان.. وكلاباريد.. التي أعقبها بخمسة مقالات أخري حول ما ينبغي أن يكون عليه التعليم في مصر. نلاحظ في البداية أن سياسة التعليم في مصر.. لم تكن سياسة الوزير.. وإنما كانت سياسة الدولة. ونلاحظ أيضا أن الحكومة استقدمت الخبراء الأجانب بعد أن وجدت أن البنية الأساسية التي قام عليها التعليم في مصر منذ 50 سنة سابقة.. لم تعد تتناسب مع مقتضيات العصر.. وأن فروعا جديدة قد استحدثت في المدارس الأوروبية.. لم تكن مدارسنا قد عرفتها.. وبالتالي اقتضت الحاجة للاستعانة بأهل الرأي من الخارج. ونلاحظ ثالثا.. أن الحكومة وجدت أن انتشار المدارس الأجنبية التي يدرس بها أبناء الطبقة الراقية وأثرياء العصر.. سوف يؤدي إلي المزيد من الفوارق الطبقية في المجتمع المصري.. وإلي تباين الطبقات علي حد تعبير إسماعيل مظهر.. وإلي وجود طبقات تختلف حقوقها وامتيازاتها عن حقوق الآخرين علي حد قوله.. الأمر الذي دفع الحكومة آنذاك لتطوير مدارسها لتناسب العصر.. وإتاحة الفرص أمام الطبقات المتوسطة والفقيرة للمشاركة في المجتمع.. لأنه ليس من العقل إقامة هرم يرتكز علي رأسه لا علي قاعدته. بما يعني أن خطة التطوير.. بالإضافة لكونها.. خطة دولة.. فإنها كانت تأخذ في اعتبارها دور التعليم في المجتمع.. ودوره في الحياة الاجتماعية.. وخطورة وجود تعليم للأثرياء وآخر لغير القادرين. تقارير مان.. وكلاباريد.. لم تخرج علي حدود تطوير البنية الأساسية للتعليم في مصر.. وإتاحة الفرصة للمسئولين في الحكومة للإطلاع علي ما يجري في الدول الراقية.. ولكنها كانت فرصة لمشاركة مثقفي العصر.. الذين لم يصلوا لمواقعهم بقرارات سيادية.. في مناقشة قضايا التعليم في مصر سنة 1936. بما يعني أن قضايا التعليم.. لم تكن من بنات أفكار وزير المعارف.. رغم سمو موقعه ومكانته.. وإنما كانت قضايا المجتمع.. لأن التعليم كما يقول إسماعيل مظهر: «إن المهمة الكبري الملقاة علي عاتق التعليم.. لا تكمن فقط في تنظيم الحالة الاجتماعية وإنما تكمن أيضا في درء للأخطار التي قد يتعرض لها الكيان الاجتماعي في مصر». خطط وطنية ويقترح إسماعيل مظهر التوسع في مدارس القري.. التي تربط الفلاح بالأرض.. وبالبيئة التي تربي ونشأ بها.. كي تعرف البلاد الفلاح المتعلم الذي يقرأ ويكتب ويعرف حقوقه وواجباته إلخ. والمثير في الموضوع.. أن تقارير «مان» و«كلاباريد».. تحولت سنة 1936.. إلي خطط وطنية.. لم تتغير ولم تتبدل بتعاقب الوزراء والحكومات.. ابتداء من التعليم الابتدائي والثانوية وحتي معاهد التربية.. والمدارس الزراعية والصناعية والحرفية.. ولم تخرج مهام الوزراء علي مراقبة الأداء.. والمحافظة علي المستويات الدراسية. ولم تتحول سياسات التعليم في مصر لسياسات يضعها الوزراء.. إلا في ربع القرن الأخير.. حيث تفرغ الوزراء لشرح سياساتهم والاشتراك في البرامج الحوارية.. والإدلاء بالتصريحات وعقد المؤتمرات الصحفية.. والظهور في الفضائيات. اختفاء القراءة وتلاشي الدور التربوي الذي كانت تقوم به المدارس.. واختفت المدارس.. وتهدمت أسوارها.. وأسندت العملية التربوية لآلاف الموظفين السابقين الذين انتقلوا في إطار توزيع العمالة الزائدة من وظائفهم الحكومية.. لوزارة التربية والتعليم التي أسندت إليهم مهام التدريس العشوائي الشكلي في مقابل رواتب متدنية دفعتهم لتحسين أحوالهم بالدروس الخصوصية. وباختفاء المدارس.. انتشرت مراكز الدروس الخصوصية التي تدرب الطلبة علي تلقي المعلومات بأقل قدر من الجهد.. كما انتشرت الكتب الخارجية التي تقدم الملخصات.. وتدرب الطلبة علي الإقلاع عن القراءة.. وتشير الأرقام إلي أن القراءة لم تعد من هوايات الغالبية العظمي من أبناء هذا الوطن العظيم. لم تعد عين الغالبية العظمي تقع علي كلمة «قراءة» سوي في إعلانات برنامج «القراءة للجميع». والعجيب في الموضوع أن هذه الأوضاع.. لم تكن خافية علي حكامنا ضعاف الإدراك طوال ربع القرن الأخير. تدهور أحوال المدارس لم يكن سرا. هروب المدرسين من الحصص ليس خافيا. انتشار الدروس الخصوصية وشكوي الآباء والأمهات من جشع المدرسين.. تجري علي كل لسان. الصور التي تنشرها صحف الحكومة لبكاء التلاميذ وأولياء الأمور أمام لجان امتحانات الثانوية العامة.. هي صور حقيقية.. وليست تعبيرية.. وهي صور كل موسم.. حيث يخرج الطالب من لجنة الامتحانات صارخا بأغنية عبدالحليم حافظ.. إني أغرق.. أغرق.. أغرق. بل إن أسئلة الامتحانات في بعض المدارس تكشف عن التردي الذي وصلت إليه العملية التعليمية.. وقد حدث أن جاء السؤال الإجباري لتلاميذ الإعدادي بالمنوفية: اكتب برقية تهنئة لأستاذك لفوزه بأمانة الحزب الوطني. هل هذا معقول؟ وهل يمكن أن تسفر هذه الأحوال عن خلق المواطن الصالح الذي يمكن أن تنهض به البلاد؟ بالطبع لا.. ولذلك فسوف تدفع الأجيال القادمة ثمنا فادحا.. لأوضاع التعليم التي سادت طوال الثلاثين سنة الأخيرة.. والتي أدت لكل ما نعانيه من أزمات ابتداء من الطماطم والمرور والعشوائيات.. والهجرة غير المشروعة.. وظهور صور الأنبياء والرسل في الأضرحة.. وسرقة المتاحف.. والفساد.. وانتشار الفتاوي التي تعتبر تحية العلم شركا بالله إلخ. وإذا تأملنا سعي الحكومة المصرية سنة 1935.. أي منذ 75 سنة.. لوضع سياسة تعليمية تواكب العصر.. وتطلعنا لما يجري علي ساحة التعليم هذه الأيام.. لوجدنا أن الوزير أحمد زكي بدر كان علي حق عندما كرس مهامه في قضية قضايا التربية.. تاركا موضوع التعليم.. لأجيال قادمة. إن غياب السياسات التعليمية لما يزيد علي ربع القرن وفتح المجال لكل وزير كي يضع سياسته التعليمية واستراتيجيته وخططه المستقبلية بالاتفاق مع زوجته.. قد قضي علي التعليم.. وقضي علي إمكانية الأجيال القادمة من اللحاق بالعصر.. وبالتالي لم يعد أمام الوزير زكي بدر سوي حل واحد.. هو التهذيب والتأديب والإصلاح.. وهذا هو المطلوب.. فإلي الأمام.. يا بدر.