بعد أن نضجت شروطها، أطلق أطفال درعا (جنوب سورية) شرارة أشعلت الثورة التي لم تهدأ أو تنته حتي الآن، حين كتبوا علي جدار مدرستهم الابتدائية شعارات ربما سمعوها من الثوار المصريين أو التونسيين الذين كانت الثورة قد اشتعلت في بلد كل منهم قبل أسابيع، وكان من هذه الشعارات (الشعب يريد إسقاط النظام) والمطالبة بالحرية والكرامة وغيرهما. كان رد أجهزة الأمن السورية علي كتابة هذه الشعارات أحمق وبليداً وعدوانياً، ويمثل الصورة الحقيقية لهذه الأجهزة، والسلوك الحقيقي لها، الذي تمارسه علي السوريين منذ أربعين عاماً، حيث عمدت هذه الأجهزة بقيادة (ابن خالة) الرئيس الأسد الذي كان رئيسها، إلي سجن الأطفال وأعمارهم بين (11 و12) سنة، وتعذيبهم بما في ذلك اقتلاع أظافرهم، وبعد عدة أيام، وعندما راجعه وفد من أهلهم ومن وجهاء المدينة وقادتها، لم يكتف برفض إخراجهم من السجن، أو حتي إبلاغهم ذلك بأسلوب لين، بل كان فجاً ووقحاً حيث قال لهم أنسوهم واذهبوا كي تستولدوا نساءكم غيرهم، وإن عجزتم فنحن علي استعداد لفعل ذلك. في اليوم الثاني، خرجت مظاهرات حاشدة في مدينة درعا، لم تطالب بإخراج الأطفال من السجن، بل رفعت شعارات الحرية والكرامة وحقوق الإنسان، والتنديد بسلوك أجهزة الأمن، فدهشت السلطة من مبدأ التظاهر وحجم المشاركين فيه، وأرسلت وفوداً من دمشق وضباط الأمن أيضاً، للحوار مع أهل درعا لحل المشكلة، إلا أن هؤلاء أفهموا الوفود أن القضية لن تنتهي بتحقيق صلح (عشائري) أو في (بوس اللحي) وأن مطالبهم بالحرية والكرامة وإصلاح النظام لارجعة فيها، وسرعان ما كان رد السلطة علي ذلك باتهام المتظاهرين بأنهم عملاء للخارج ومندسين، وتلقوا الأموال والأسلحة من دول معادية، بل وإنهم طائفيون أيضاً، وبديهي أن كل هذه التهم كانت تهماً كاذبة ومختلقة، ورفض النظام أي حوار مع أي من تيارات أو شرائح الشعب السوري، لمناقشة واقع النظام وإمكانية تطويره، خاصة أن مطالب المتظاهرين ، حتي ذلك الوقت ، لم تكن تتطلب أكثر من إصلاح النظام، من خلال حوار تشارك فيه جميع فئات المجتمع السوري السياسية والاقتصادية والشعبية. وهكذا تحولت الانتفاضة التي أشعل الأطفال شرارتها إلي حراك شعبي سياسي، ثم تطورت بعد أن أصر النظام علي صلفه وعلي رفض الإصلاح أو حتي الاجتماع مع فئات المجتمع الأخري (تطورت) إلي ثورة سلمية ثم ما لبثت أن أصبحت مسلحة بعد أن استعمل النظام السلاح لقمعها. استُشهد حتي الآن في سورية ثلاثة آلاف وخمسمائة طفل، ودفع أطفال سورية ثمناً غالياً بسبب الثورة، فهناك حوالي مليون طفل، وهم أطفال النازحين داخل سورية وخارجها، يعانون من البرد والجوع والانقطاع عن المدارس، فضلاً عن مئات آلاف الأطفال الآخرين الذين دُمرت مدارسهم أو صودرت لتكون مقار عسكرية أو سجوناً، وصار أمراً مألوفاً مثلاً أن تصادف في شوارع المدن والقري السورية أطفالاً حفاة، تغوص أقدامهم في الطين البارد أو يسيرون فوق أرض تجمدت، فضلاً عن أن بعضهم يلبس مزقاً من ثياب، وبعضها ثياب صيفية، والبعض الآخر يتسول رغيفاً أو بعض الطعام، وفي الخلاصة دفع الأطفال السوريون ومازالوا يدفعون ثمناً باهظاً للثورة التي أشعلوها. رأيت بنفسي، في إحدي حدائق دمشق العامة، أطفالاً يركبون المرجوحة التي تتمرجح بهم وهم صامتون، فاقترحت عليهم أن يغنوا وهم يتمرجحون، وكانت دهشتي كبيرة، عندما قال أحدهم (سورية بدها….) فأجابه الجميع (…. حرية) ولم يكن بينهم من يتجاوز عمره السنوات الست،وكانوا يعتقدون أن هذا الشعار هو أغنية ، فأدركت حينها أن الأطفال يشاركون بحق في الثورة، سواء عرفوا أو لم يعرفوا، وأن تقاليد الثورة وقيمها وطقوسها لابد أن تتراكم في عمق ثقافتهم، وأن يكون لها نتائج مهمة، وأن شرارة الثورة التي أطلقوها بشكل عفوي و(طفولي) ستبقي مشتعلة دائماً… ويبدو أن أطفال سورية لم يعودوا أطفالاً.