الرشوة في منتصف الملعب! الرشوة هي حساب جار يسحب من الراشي إلي أن ينفد الرصيد .. لأن السحب ع المكشوف.. حرام! الرشوة مثل كرة القدم.. تعتمد علي التمريرات السريعة من لمسة واحدة.. واستخدام رأس الحربة المناسب لاختراق خطوط المدافعين.. علاوة علي دقة التصويب.. وأن تندفع الكرة نحو الهدف علي خطوات مارلين مونرو.. بحيث لا يستطيع حارس المرمي مقاومتها.. إلي أن يكتشف أنها في مرماه وفي أحضان شباكه.. وهو لا يدري!. يضاف إلي هذه القواعد العامة.. ما يعرف بآداب الرشاوي.. وفي مقدمتها أنك عندما تقدم الرشوة لشخص ما.. فعليك أن تنسي ذلك فورا.. وكأن شيئا لم يكن.. وتنسي أنك قدمت الرشوة. أما عندما.. تكون أنت الشخص الذي تلقي الرشوة فعليك ألا تنسي ذلك.. مدي الحياة.. لأن الرشوة هي حساب جار، يسحب منها الراشي إلي أن ينفد الرصيد. لن يصلك كشف حساب بالطبع.. وإنما جرت التقاليد في «بنوك المصالح» أن يعرف العميل أن رصيده قد نفد.. من تلقاء نفسه.. وأن عليه أن يضيف لحسابه رصيدا جديدا.. يسمح بالسحب لأنه من آداب الرشاوي أنها لا تعرف السحب علي المكشوف!. السحب علي المكشوف حرام!. والرشوة لابد أن تكون منتقبة. وإذا تأملنا الرشاوي التي قدمتها شركة «مرسيدس» أو شركة «فيروشتال» الألمانيتان لمسئول كبير في القاهرة.. نجد أنها خضعت.. ولاتزال تخضع لنفس الآداب والقواعد.. فالشركة التي قدمت الرشوة.. نسيت أنها قدمت الرشوة للمسئول الكبير.. وقالت إنها سلمتها لرأس حربة.. ولكنه لم يمررها.. بلمسة واحدة.. ويبدو أنه احتفظ بها.. وحملها معه خارج الملعب. فالشركة الألمانية.. تعترف بأنها قدمت الرشوة ولكن الآداب تمنعها من ذكر الأسماء.. لأنها عندما قدمت الرشوة.. نسيت علي الفور.. أن ذلك قد حدث، وكل ما كان يهمها قضاء مصالحها في الدولة النامية التي تتعامل معها. وكلها مصالح مشروعة وقانونية.. وتتم في الدول التي لا يحكمها الفساد بسهولة ويسر.. مثل الجمارك.. والتصاريح.. أي الجهات التي يتعين علي الشركة الألمانية.. التردد عليها لقضاء المصالح العادية المتعلقة بأنشطتها. في الدول الديمقراطية.. التي لا يحكمها الفساد.. تمر هذه الإجراءات مرور المواكب في شوارع القاهرة.. بلا اختناقات ولا معاكسات.. ولا أوتوبيسات.. تطل أجساد الركاب من نوافذها. تمر مرور الحكام. أما في دول الفساد.. فالشركة الألمانية.. تدفع في كل خطوة وفي كل حركة وفي كل لفتة.. إكراميات.. وكلما طالت الإقامة واستغرقت المشروعات سنوات طويلة.. تكبدت الشركة مبالغ طائلة.. قد تؤدي لإفلاسها كما حدث لشركة «تليفونكن» الألمانية في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، عند تنفيذ مشروع التليفونات في القاهرة. لقد أفلست شركة تليفونكن بسببنا، وقال لي مسئول الشركة أيامها.. إنه عندما وضع تفاصيل المناقصة كي يرسو المشروع علي شركة.. لم يكن يتخيل أن مجرد حماية معدات الشركة.. من كابلات وأسلاك في الشوارع سوف تكلفه كل هذه المبالغ. ومرت الشركات الألمانية بسلسلة من التجارب أولها.. منح تبرعات للجهات التي تتعامل معها.. وكل هيئة أو جهة أو وزارة.. تحصل علي تبرع أشبه بأموال الزكاة.. إلا أن هذه التجربة أثبتت فشلها.. ولم تثمر التبرعات العامة في إنجاز المهام العادية. اختصار الكلام.. أن الشركات الألمانية خرجت من هذه التجارب بنتيجة واحدة.. تتلخص في تجميع هذه التبرعات في سلة واحدة.. وتقديمها لشخص واحد يتمتع بنفوذ صاعق.. في كل مؤسسات البلد.. ولا يترك منصبه.. أبد الدهر!. ويمكن أن نطلق عليها «رشوة ملعوبة»!. الرشوة الملعوبة.. هي السبيل الوحيد لقيام أي شركة أجنبية بإنجاز مهامها في مصر. وبدون الرشوة الملعوبة.. سوف تتوقف أنشطة الشركات الألمانية في الغالبية العظمي من دول العالم الثالث. ومعرفة الشخص صاحب النفوذ الصاعق في الدول التي لا تعرف تبادل السلطة.. لا تحتاج لعناء.. أو لجهد خارق.. لأن رجال السلطة.. كالأقمار.. التي تهتدي بها القوافل في بطون الصحراء. وإذا سألت طفلا في الشارع.. عن أقوي رجل في البلد.. نطق لك بالاسم.. همسا. وهذه المبالغ التي تقدر بالملايين.. لا تعد في نظر الشركات الألمانية الكبري بمثابة الرشاوي.. وإنما هي جزء أساسي من أنشطة التسويق.. وفق ظروف كل دولة.. ونظامها السياسي.. وطبيعة حكامها.. ومدي التزام الدولة بالشفافية وتبادل السلطة، والديمقراطية. وقال لي واحد من كبار رجال الأعمال الألمان أصحاب الخبرات الطويلة في التعامل مع دول الفساد.. في حضور هانز زاخرت مدير المباحث الجنائية الألمانية في بون سنة 1990 إن الرشوة.. جزء أساسي من الأنشطة التسويقية لأي شركة.. ولا يمكن الاستغناء عنها. ومضي يقول إن رجل الأعمال.. هو رجل اقتصاد يستخدم جميع الوسائل القانونية لتسويق منتجاته وزيادة مبيعاته.. وليس من مهامه نشر الفضيلة.. ونشر المسيحية(!!).. إننا لانقوم بأعمالنا من أجل نشر الأخلاق والقيم النبيلة.. لأنه إذا كان الحال كذلك.. فما هو دور القانون. واستطرد الرجل يقول: - نحن كرجال أعمال لنا وظيفة.. والقانون له وظيفة.. ونحن نقوم بأعمالنا في حدود القانون.. وندفع الرشاوي، لأنه بدونها سوف نتوقف تماما عن التعامل مع الغالبية العظمي من دول العالم الثالث.. التي تحكمها طبقة تمتلك الأرض وما عليها.. ولا تعرف الانتخابات ولا الشفافية.. وتطبق القاعدة التي تقول «إن الأسماك الكبيرة تهرب.. والأسماك الصغيرة تقع في الشباك». ووجه لي سؤالا مباغتا: هل المطلوب مني أن أذهب إلي مصر.. كي أدعو للانتخابات الحرة وتبادل السلطة؟ أم أن العقل يقتضي التعامل وفقا للثقافة القائمة والمستقرة.. والتي لم تعد محل جدل أو نقاش. هل المطلوب مني أن أذهب إلي مصر لإقناع الناس بأن الرشوة حرام؟ وقال وسط صمت هانززاخرات: - يا سيدي نحن لا نعمل من أجل نشر مبادئ المسيحية.. نحن نبيع بضاعة.. غالية.. ونحن دولة غنية.. ونعمل وسط مسئولين وموظفين فقراء.. تربوا وسط ثقافة الفقر والحرمان.. ويتطلعون إلينا بعيون الرجاء.. ونحن نبيع بضاعة لا نستطيع تسويقها إلا بمساعدة ساسة لهم نفوذ.. يتقاضون الرشاوي عن كل عملية «شهيق وزفير» نقوم بها كي نتنفس.. في بلادهم، وهم الذين يوفرون لنا تأمين بضاعتنا وحمايتها من السرقة.. وتسهيل الإجراءات البيروقراطية المعقدة. أما الجملة التي أعجبتني في حديث رجل الأعمال الألماني فهي تلك التي نطق بها بالإنجليزية.. وهي we are not in Business to promote ethics! أي أننا لا نقوم بنشاطنا التجاري من أجل نشر القيم الأخلاقية. وأستطيع أن ألخص الحديث الذي استمر ليلة بأكملها وتحدث فيه الصديق هانز زاخرت عن جرائم غسيل الأموال في جملة قصيرة.. وهي أن النظم السياسية في الدول النامية.. هي التي تضع أساليب التعامل مع هذه الدول. فالشركة الأجنبية.. لا تذهب للدول الأجنبية كي توزع الهدايا والرشاوي علي قادتها.. وإنما هي تطبق القواعد التي لا يمكن إنجاز أي عمل إلا بالالتزام بها. فالشركة الأجنبية لا تخترع الفساد.. ولا تصنع المفسدين.. وإنما هي تتعامل مع واقع قائم بالفعل.. وعلي أساليب مستقرة ومتعارف بها. فالمسئول الذي يتقاضي الرشوة معروف.. والوسطاء معروفون.. ولهم تاريخ عريق داخل النظام الحاكم. وعلي حد قول رجل الأعمال الألماني الكبير: - أنا لا يهمني اسم المسئول الذي ستنتقل إليه الرشوة في النهاية.. أنا يهمني إنجاز أعمالي! هذه المقدمة التي طالت كانت ضرورية.. وأنا أكتب عن زيارة المهندس رشيد محمد رشيد وزير التجارة والصناعة وهو من كبار رجال الحرس الجديد.. لولاية بافاريا الألمانية معقل شركة مرسيدس. لقد أجري رشيد محادثاته مع ايميلا موللر وزيرة التعاون الاقتصادي بولاية بافاريا.. حول التعاون بين مصر.. الدولة.. وبافاريا.. الولاية. وبما أن شركة مرسيدس هي واحدة من الشركات الكبري العملاقة التي يقوم عليها اقتصاد الولاية فمن الطبيعي أن تتناول محادثات رشيد موضوع الرشاوي التي قدمتها الشركة لمسئول صاحب نفوذ في القاهرة.. عن طريق وسيط.. أو رأس حربة.. يقال إنه لم يمررها إلي فوق بضربة رأس.. لشخصية لها حيثية من الوزن الثقيل. والمؤكد أن الوزير أجري اتصالات بمسئول ما في شركة مرسيدس تناولت قضية الرشوة. أما تصريحات المهندس رشيد في ميونيخ.. عاصمة ولاية بافاريا.. حول الرشوة.. فكانت أعجب من العجب. قال الوزير في ميونيخ إنه لا توجد لقضايا الفساد سوي حل واحد.. وهو محاسبة المتورطين فيها ومعاقبتهم بالجزاء الصارم الذي يحدده القانون(!!). وأضاف الوزير أنه يجب أن يأخذ التحقيق مجراه حتي يصدر الحكم المناسب للجريمة طبقا للقضاة(!!). واستطرد الوزير قائلا: إن المشكلة ليست في وجود الفساد.. بل في اتخاذ موقف واضح يردع المخالف(!!). وهو كلام لا يمكن أن يصدر عن مسئول في دولة تتمتع بالحد الأدني من الجدية.. ولديها الرغبة في مكافحة الفساد والرشوة.. لسبب بسيط هو أن القضية ليست في مكافحة الرشاوي أو القبض علي المرتشين ومحاكمتهم.. ومعاقبتهم بالجزاء الصارم. القضية هي أن الرشاوي التي نتحدث عنها.. هي رشاوي من العيار الثقيل.. وتقدم لمسئولين يستطيعون تقديم التسهيلات علي كل المستويات الإدارية العليا.. ويتمتعون بالحصانات.. والسلطات بلا حدود. نحن نتحدث عن رشاوي تتعلق بغياب الديمقراطية وتبادل السلطة.. ووجود رجال الأعمال فوق مقاعد الحكم بما يمكنهم من الحصول علي معلومات.. وعلي قرارات وزارية قبل صدورها.. والعمل بها رسميا. نحن نتحدث عن رشاوي تقدم لسكان القصور.. وليس لسكان عزبة الهجانة أو اسطبل عنتر.. وتؤدي لإحداث خلل مروع في الأمن الاجتماعي للأمة.. الذي قد يؤدي بدوره لاندلاع القلاقل والاضطرابات. نحن نتحدث عن فساد في الأدوار العليا للسلطة.. ولذلك يصاب المرء بالدهشة وهو يتابع تصريحات الوزير رشيد في ألمانيا.. عن محاكمات المرتشين في الوقت الذي لاتستطيع فيه الحكومة عندنا محاكمة الوزراء الذين اشتروا جزيرة آمون.. ولا الذين اشتروا أرض ميدان التحرير.. ولا المسئول المصري الكبير الذي ينتقل بين عواصم العالم لتصفية أقسام المصريات في المتاحف الكبري.. كي تحل محلها الآثار العبرية.. ولا الذين باعوا أرض «مدينتي» في صفقة تحوطها الشبهات إلخ. يا سيادة الوزير.. أرجوك لا تتحدث عن محاكمة المتورطين في الرشاوي ومعاقبتهم.. كيلا تعجل بخروجك في أول تعديل وزاري.. فالرشوة الآن في وسط الملعب!. وتعالوا نتابع مباريات المونديال.. من جديد!.