أثارت حركة حماس إمكانية إعلان قطاع غزة منطقة محررة، بكل ما يتطلبه هذا الإعلان من التزامات وإجراءات، وما سيعكسه علي أوضاع القطاع من تطورات ومتغيرات في العلاقات مع الجوار «إسرائيل ومصر» وجاءت أحداث رفح المصرية، والاعتداء الآثم علي المخفر المصري الأمامي واستشهاد 16 ضابطاً وجندياً، كما جاء الغموض الذي لف الحدث الكبير، والتباينات في المعلومات، بعضها مؤكد وصحيح وبعضها جري تسريبه لأسباب سياسية ليست خافية علي أحد.. جاء هذا كله ليلقي المزيد من الضوء علي أهمية هذا الإعلان المفترض، وعلي خطورته، خاصة أنه يأتي خارج أي إطار فلسطيني توافقي، وبصلة أحادية مع القاهرة، بعد وصول محمد مرسي إلي سدة الرئاسة مرشحاً عن حركة الإخوان المسلمين. ما تداعيات هذا الإعلان، إذا ما لجأت حركة حماس له؟ ما أسبابه، وما الدوافع الحقيقية التي تقف خلفه، وكيف ستكون، والحال هكذا، علاقة القطاع مع الضفة الفلسطينية، ومع إسرائيل ومع مصر؟.. وكيف سينعكس هذا القرار علي الأوضاع داخل القطاع، وفي العلاقة بين حركة حماس وباقي الفصائل الفلسطينية؟، وما مصير «المقاومة» التي يفترض أن قطاع غزة هو ميدانها وقاعدتها الآمنة بعد أن أعاد جيش الاحتلال انتشاره في محيط القطاع خريف العام 2005؟ انسحاب أم إعادة انتشار؟ القطاع مازال تحت الاحتلال، فالجيش الإسرائيلي يحيط به من كل جانب، وما زال يسيطر علي أجوائه، بشكل كامل، وكذلك علي بحره، وعلي الطرق البرية والبحرية والجوية المؤدية إليه. ولا يمكن لأي مواطن فلسطيني، أو أي زائر أن يأتي إليه، أو يغادره، إلا بعلم إسرائيل وموافقتها. وقد تجلي بعض ذلك في اتفاق المعابر، الذي جري توقيعه بين السلطة الفلسطينية من جهة وإسرائيل من جهة أخري، برعاية أمريكية، كما اعتمدت المنظمة الدولية للأمم المتحدة اتفاق المعابر، باعتباره اتفاقا رسميا بين طرفين سياسيين، مثله مثل اتفاق أوسلو وملحقاته. وبعد انشقاق حركة حماس، اشتدت قبضة الاحتلال علي القطاع من خلال فرض حصار خانق حوله، يساوي 35% من مساحته الزراعية، كما فرضت سلطتها علي حوالي 85% من ساحله وبحره المخصص للصيد. أي أن مظاهر الاحتلال للقطاع تعمقت، وسيطرته توسعت، وقبضته اشتدت. فضلا عن ذلك ما زالت البضائع إليه ترد عبر معابر إسرائيلية كمعبر كرم أبو سالم، وغيره، وكذلك الوقود وغير ذلك من المستلزمات الحياتية. أما منتجاته الزراعية، فإن معظمها يجري تصديره عبر مطار اللد، مرورا بالمعابر الإسرائيلية التي تحيط بالقطاع. إذن القطاع، قانونيا وسياسيا، بواقع الأمر، ووفقا لفتاوي رجال القانون الدولي، وباعتراف الأممالمتحدة وإقرارها، ما زال تحت الاحتلال. وإن اللجوء إلي الإعلان عن القطاع منطقة محررة، غير خاضعة للاحتلال، يشكل خطوة خطيرة، تعفي الاحتلال من مسئولياته الأمنية والسياسية والقانونية عن القطاع، وتبرئته من أي واجبات، كفك الحصار، وإخلاء المناطق المحتلة ورفع اليد عن البحر، والسماح بتشغيل المطار الدولي، والتوقف عن سرقة الغاز الذي اكتشف مقابل شواطئ القطاع، وعدم التدخل في الحركة منه وإليه، فضلا عن وقف الأعمال العدوانية ضده. إعلان القطاع منطقة محررة، لن يغير في واقع القطاع شيئا، بل سيخدم ادعاءات الجانب الإسرائيلي، كما أطلقها شارون حين أعاد انتشار جيشه في محيطه, وفي أجوائه وفي بحره. لا مصالحة ولا انتخابات الملاحظ، في هذا السياق، أن حماس كشفت عن رغبتها بإعلان القطاع منطقة محررة دون التشاور مع أطراف المقاومة في القطاع، مكرسة بذلك سياسة الاستفراد والتفرد التي تتبعها في صياغة قراراتها ذات الطابع المصيري، بعيدا عن الالتزام بالمبدأ الوطني القائل «شركاء في الدم والمقاومة.. شركاء في القرار». كذلك كشفت عن نيتها هذه دون التشاور مع «الطرف الآخر» أي مع الرئيس محمود عباس الذي تربطها به اتفاقية القاهرة (4/5/2011) واتفاقية الدوحة (6/2/2012) واتفاقية القاهرة لتنفيذ اتفاق الدوحة (20/6/2012) سبق هذا الإعلان مجموعة من المواقف المهمة اللافتة للنظر. قرار حركة حماس وقف أعمال لجنة الانتخابات المركزية لتحديث السجل الانتخابي في القطاع. مبررة ذلك بأن أجهزة السلطة في الضفة تعرقل تسجيل مؤيدي حماس في السجل الانتخابي. هناك. تصريح لمحمود الزهار، أحد قادة حماس في القطاع، يسخر من إمكانية تنظيم انتخابات في الضفة والقطاع، متخوفا من أن تمارس فتح وسلطة الاحتلال علي مرشحي حماس وناخبيها الضغوط الآيلة إلي إسقاط حماس، وتجريدها من السلطة في القطاع، متجاهلا تجربة انتخابات 2006، حين فازت حماس بالانتخابات التشريعية وبرئاسة الحكومة عبر صندوق الاقتراع، في انتخابات، اعترفت حماس نفسها بأنها كانت نزيهة. تصريح لرئيس «حكومة» حماس في القطاع، إسماعيل هنية في الأول من رمضان، يقول فيه إن وصول حماس إلي السلطة وفوز «الإخوان» بالرئاسة في مصر، من شأنه أن يفتح الطريق إلي استعادة الخلافة الإسلامية، دون الحديث عن ذكر قيام دولة فلسطينية مستقلة علي التراب الفلسطيني. توتر العلاقة بين فتح وحماس، بعد أن تعدلت تطبيقات اتفاق المصالحة، والعودة مرة أخري إلي تبادل الاتهامات بالاعتقالات والاعتقالات المضادة. في ظل هذا الوضع المأزوم، بين الطرفين وحالة الانقسام السياسي والإداري والجغرافي، بين الضفة والقطاع، وفي ظل وجود حكومتين لا تنسيق ولا تعاون ولا علاقة تربط بينهما، وفي ظل غياب التنسيق السياسي علي الصعيد الوطني، وفي ظل غياب استراتيجية فلسطينية، يندرج هذا الإعلان في سياقها، وفي ظل غياب رد واضح علي السؤال التالي: وماذا بعد إعلان القطاع منطقة محررة؟، يؤكد المحللون، ويلتقون بذلك مع رجال القانون، أن هذا «الإعلان»، المغري والبراق في ظاهره، إنما هو تكريس لحالة الانقسام، يبرر لحماس بقاء «حكومتها» و«سلطتها» وانقسامها، ويوفر أرضية سياسية «وإن كانت غير مقنعة» لرفضها الالتزام بمتطلبات اتفاق إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الداخلية. إعلان القطاع منطقة محررة، في هذا السياق السياسي، ما هو إلا هروب إلي الأمام، في خطوة لن تعود علي الحالة الفلسطينية إلا بالضرر الكامل. ليس لأن أحدا لا يريد للقطاع أن يتحرر، إذ كل النضال والتضحيات إنما في سبيل التحرر من الاحتلال. بل لأن هذه الخطوة، فضلا عن كونها لن تغير في واقع القطاع شيئا ملموسا، فإنها ستدفع به نحو المجهول، في اتجاهات سياسية مغامرة، ذات تداعيات فلسطينية وإقليمية شديدة الخطورة. مرسي رئيساً وصول مرشح «الإخوان» محمد مرسي إلي الرئاسة في القاهرة، شكل كما يقول المراقبون، منعطفا في الموقف المصري من الملف الفلسطيني، ومنعطفا في نظرة حركة حماس إلي القاهرة ودورها في إدارة بعض جوانب الملف الفلسطيني. خالد مشعل رئيس المكتب السياسي، في انتقاد غير مباشر للمرحلة السابقة في العلاقة مع القاهرة، رأي في وصول مرسي إلي الرئاسة بداية ل »علاقة جديدة مع حماس«، دون أن يوضح ملامح هذه العلاقة. إسماعيل هنية زار القاهرة واستقبل من مرسي شخصيا باعتباره «رئيسا لحكومة فلسطينية»في اعتراف واضح من الرئاسة المصرية، للمرة الأولي ب «حكومة هنية» في موازاة اعترافها بحكومة فياض في رام الله. تردد الرئيس مرسي في استقبال الرئيس الفلسطيني محمود عباس، واقتراحه علي بعض الدوائر الفلسطينية تأجيل هذا الاجتماع، وأن يعقد بدلا منه اجتماع ثلاثي يضاف له خالد مشعل، غير أن الموقف الواضح الذي فرضه بعض أعضاء اللجنة التنفيذية في م. ف. ت.، والملاحظات التي أبديت حول «عدم صوابية» موقف مرسي، دعته للتراجع عن فكرة «الاجتماع الثلاثي»، لصالح اجتماعه الثنائي مع محمود عباس باعتباره رئيسا للسلطة الفلسطينية، ورئيسا لمنظمة التحرير، ورئيسا لدولة فلسطين، وليس باعتباره «أحد طرفي الخلاف»، بما يساويه مع مشعل «الطرف الثاني». تردد الرئيس مرسي في دعم القرار الفلسطيني في الذهاب إلي الجمعية العامة للتقدم بطلب مقعد مراقب لفلسطين، واقتراحه علي الرئيس عباس بتأجيل الخطوة، أو البحث عن «خيار بديل لها حتي لانزعج الأمريكيين». قرار الرئيس مرسي «إزالة العوائق» أمام حركة الفلسطينيين عبر معبر رفح، وفتح المعبر علي مصراعيه، «لمساعدة الفلسطينيين» علي الحركة الحرة، بناء علي طلب حركة حماس، ودعوته السلطات المعنية للبحث في تخصيص جزء من المعبر لحركة التجارة بديلا لمعبر كرم أبو سالم، بما يعزز العلاقة بين مصر وغزة، ويقلصها بين القطاع وإسرائيل. تداعيات محتملة المصادر الإقليمية نقلت علي لسان الإسرائيليين ترحيبهم بأن تتحمل مصر «كامل المسئولية» عن القطاع، وأن تتولي هي «ضمان» استقراره وهدوئه. ويري الإسرائيليون في هذه الخطوة ما يعفيهم من التعامل مع القطاع مباشرة، لصالح التعامل مع القاهرة، التي ستتولي هي ضبط الوضع الأمني في القطاع، وفقا للاتفاقات المصرية الإسرائيلية، التي أكد مرسي حرصه علي صونها والالتزام بها، وفي مقدمتها معاهدة كامب ديفيد. أي بتعبير آخر، مثل هذه الخطوة ستدخل القطاع تحت سقف معاهدة كامب ديفيد، لأنها ستصبح جزءا من «الالتزام المصري». غير أن واقعة رفح المصرية (5/8/2012) دفعت بالأطراف كلها لإعادة النظر باقتراح حماس إعلان غزة منطقة محررة، وإعادة النظر بحماسية مرسي و«الإخوان» للاستجابة لهذا الموقف. فقد تبين أن في غزة «مجموعات سلفية» ولدت من رحم حماس وتحت سقف سلطتها وإمساكها بالأمن في غزة. وأن بعض أعضاء هذه المجموعات «تسلل» إلي القطاع عبر الأنفاق التي يتم حفرها بمعرفة حركة حماس وموافقتها، والتي يتم تشغيلها، كذلك برعاية حماس التي تفرض علي كل حركة داخل هذه الأنفاق ضرائب مالية تعود إلي خزينة حكومة هنية، وبعض الأطراف الأخري في الحركة. حادثة رفح وقعت في أحضان «الإخوان» وأحرجتهم كثيرا، كما أحرجت حركة حماس التي تقف الآن أمام نارين: نار الصمت علي ما يجري، وبالتالي تحمل مسئولية ما جري، وسيجري، أمام الدوائر المصرية المختصة. أو نار «الضرب بيد من حديد» علي المجموعات السلفية، ما ينذر بإشعال صراعات داخل القطاع قد تتطور باتجاهات غير محسوبة. حادثة رفح منعطف خطير في العلاقة بين مصر والقطاع تحت سلطة حماس، ما يتطلب وقفة تأملية ومراجعة نقدية، ودراسة متأنية للواقع القائم، والبحث عن استراتيجية واضحة المعالم تعيد الاعتبار للمقاومة في القطاع، وترسي العلاقة مع مصر، علي قاعدة الجوار، وانطلاقا من وجهة نظر تختصر الموضوع بأن علي القطاع أن يشكل القاعدة الخلفية للمقاومة ضد الاحتلال، بعيدا عن أوهام الإعلانات الرنانة، ذات المضمون الملتبس، وبعيدا عن البحث عن مكاسب إقليمية لا تقف علي أرض سياسية تتمتع بالصلابة الضرورية.