أتابع مناقشة موضوع إنشاء المجلس الوطنى الأعلى للتعليم والتدريب. المادة الرابعة من مشروع القانون تحدد هدفه، وهو "توحيد سياسات التعليم والتدريب، بكافة أنواعه، وجميع مراحله، وتحقيق التكامل بينها، والإشراف على تنفيذها، بهدف ربط مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل المحلى والدولى، والعمل على النهوض بالبحث العلمى". ويأتي في صدارة اختصاصاته إعداد وصياغة الإستراتيجية الوطنية للتعليم والتدريب بكافة أنواعه وجميع مراحله. وهذه مهام لا يستطيع مجلس بيروقراطى الشكل والمضمن القيام بها. كما أن المجلس المقترح ليس مؤهلا بحكم تشكيله للقيام بمهمة وضع إستراتيجية للتخلص من الأمية، وهى مهمة تتصل بأهم تحدٍّ وجودى يواجه المجتمع المصرى وهو موضوع التعليم ومحو الأمية. ومعلوم أن الدكتور طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" الصادر عام 1938 اقترح إنشاء مجلس أعلى للتعليم يضم أهل الخبرة والتخصص وليس أصحاب المناصب. فلا يضم أحدًا من الوزراء أو المسئولين التنفيذيين، بل يتشكل من مجموعة من العلماء والأدباء والتربويين. واستلهامًا لهذه النظرة، فإن المطلوب هو إنشاء مفوضية للتعليم قد نسميها المجلس الأعلى للتعليم أو الهيئة الوطنية العليا للتعليم أو المجلس الوطنى الأعلى للتعليم والتدريب كما جاء في مشروع القانون المقدم من الحكومة. المسمى لا يهم، والأهم هو الأهلية الوظيفة. وبناءً على ذلك أستطيع القول، بأن هناك مشكلة صارخة تتعلق بالتعليم في هذا الوطن، ومن ثم لابد أن نبحث بجدية عن كيان للتعامل مع هذه المشكلة. وبالتالي في محاولةٍ لتصور المسألة، أحيل إلى ما أحال إليه بعض الزملاء في السابق، أحيل إلى مواد الدستور، وأحيل أيضًا إلى رؤية مصر 2030. الدستور به عدة مواد من 19 إلى 25 وبه استحقاقات ولا بد أن أنتهز هذه المناسبة لأؤكد على استحقاق التمويل، مثلًا أنه في المجمل بين تعليم عادي وتعليم جامعي وبحث علمي 7% من الناتج على المحلي، إذ تشير أرقام مشروع الموازنة العامة للدولة لعام 2023-2024، إلى أن المخصص للتعليم بكل مراحله أقل من 2%. وبالتالي مهما أتقنا صياغة مجلس ومهما تجادلنا حول التسمية الصحيحة، ومهما جادلنا في الاختصاصات، سنصطدم بصخرة عاتية جدًا، ألا وهي صخرة نقص التمويل. وبالتالي هذا الجزء لابد أن نتوقف عنده، لماذا هذا التباطؤ في توجيه الموارد؟ وأنا اتحدث كإقتصادي وأعرف جيدًا أن الموضوع موضوع أولويات وليست مسألة نقص موارد مالية على الإطلاق، وهذا بالنسبة للنقطة الأولى. أما النقطة الثانية، في أكثر من مادة من المواد ذات العلاقة في الدستور، تتحدث عن حرية البحث العلمي وأنا هنا أتحدث بقبعة أخرى، وهي قبعة الأستاذ الجامعي بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة. فلا بد أن تعرفوا الحقيقة المرة، بل شديدة المرارة، حيث لا تستطيع كلية الاقتصاد والعلوم السياسية تنظيم مؤتمر ولا سيمينار، ولا حتى محاضرة لضيف من خارج الجامعة له وزنه في مجاله، إلا بعد إجراءات طويلة يهيمن عليها الأمن، ولذلك أنا أنتهز الفرصة، وأقول قبل أن نطالب بإنشاء مجلس أمناء، علينا أن ننتبه ونطالب برفع قبضة الأمن عن الجامعة، فالبحث العلمي يحتاج إلى أفق ورحابة وإلى الإحساس بالأمان والحرية. وليكن لنا عبرة ونموذج في موقف الأستاذ أحمد لطفى السيد مدير جامعة القاهرة منذ حوالى قرن عندما سارع بتقديم استقالته، احتجاجًا على نقل الدكتور طه حسين من كلية الآداب ليعمل مستشارا لوزارة المعارف. لأن ذلك يخل بالسكينة المطلوبة للأستاذ الجامعي. ما هو المطلوب إذًا؟ المطلوب هو كيان يعيد صياغة العملية التعليمية بكل مستوياتها وبكل أنواعها، بما يحفظ كيان هذا الوطن في مواجهة الأوطان الأخرى وبما يبني الهوية الوطنية، وهو جزء في غاية الأهمية. فالمسألة ليست مسألة معارف هنا وهناك، فالهوية الوطنية نص عليها الدستور وهي مطلوبة بإلحاح، من أجل الإبحار في بحر العولمة الحالي. ولذلك أقول يمكن أن ندقق في تفاصيل المشروع الحالي من حيث الاستقلال والتبعية. ولكنى أطالب بزيادة مخصصات التعليم ووضع خطة زمنية لمحو الأمية تفعيلا لنصوص الدستور. وقبل كل ذلك وبعده، أطالب برفع القيود الأمنية المفروضة على الجامعات ومراكز البحث العلمى. أما مجرد الانشغال بالتفاصيل فسيكون بمثابة ترقيع في ثوبِ بالٍ.