تدعونا الازمات الاقتصادية التي يواجهها العالم الي رد الاعتبار لمفهوم الاكتفاء الذاتي خاصة فيما يتعلق بالمنتجات الغذائية رغم أن كثيرين يرون أن الاكتفاء الذاتي هو مفهوم تفاعلية الزمن اذ يقضي عليه تدريجيا مفهوم الاعتماد المتبادل الذي اصبح حقيقة عالمية ملخصها التعبير الشائع الذي يقول ان العالم اصبح قرية صغيرة. ولطالما دار الجدال بين الاقتصاديين والخبراء والساسة حول مضمون هذا الاعتماد المتبادل وبوسعنا ان نستنتج من هذا الجدال أن هناك فروقا طالما تحدث عنها الاقتصاديون بين الاقتصاد الذي يرتكز أساسا على الانتاج والاقتصاد الذي يقوم على زيادة الاستهلاك عن الانتاج. ولطالما شرح لنا الاقتصاديون فضائل المجتمع المنتج الذي لا يقدم للمواطنين سلعا فحسب, وانما هو يقدم ايضا قيما وأفكارا. وقد بنيت لنا تجارب بلدان كثيرة, وبينها تلك التي صنفها العلم متخلفة وفقيرة لانها لا تملك الا الحد الادني من الموارد والثروات, بينت لنا تجاربها ان الاستثمار في كفاءات البشر بهدف تطويرها المستمر يثبت فعلا ويؤكد مقولة ان الانسان هو أثمن رأسمال, اذ انه تم عن طريق هذا الرأسمال الثمين تحقيق المعجزات واستطاعت بلدان ان تهزم التخلف وتخفف من حدة فقر شعوبها تطلعا للقضاء نهائيا علي الفقر. ولطالما اكد الاقتصاديون الاشتراكيون ان الثروات الموجودة في عالمنا يمكنها أن توفر كل الحاجات الاساسية للشعوب وتفيض, ولكن يظل التقسيم غير العادل لهذه الثروات سواء علي الصعيد العالمي أو في كل دولة علي حدة, يظل هذا التقسيم واقفا حجر عثرة في وجه العدالة التي تتطلع اليها الشعوب. ويبرز لنا الفكر الاشتراكي مجددا رغم كل التشوهات التي لاحقته وعلقت به من قبل اصحاب المصلحة في بقاء هذا الانقسام وهم الذين يكافحون من اجل تثبيته وتأييده حفاظا علي مصالحهم, يبرز لنا كحل متكامل, وانساني الطابع علي افضل نحو للخروج من هذا الانقسام وصولا الي أرقي اشكال الوئام الانساني حيث ارتقاء شخصية الانسان الي اعلي الذري حين يولد الانسان المسرور, ذلك الانسان الذي تتجلي انسانيته في ابهي صورها حين يتخلص من العوز والحاجة والخوف من المستقبل, اذ تتجلي مواهبه علي افضل نحو وأرقاه ليواصل صنع الحضارة. كثيرا ما نصف مسيرة البشر في اتجاه ارساء العدالة والكرامة الانسانية بانها طويلة جدا, بدليل انها متواصلة منذ قرون, ولكن القراءة العادلة والمتأنية سوف تدلنا بكل وضوح علي أن ما انجزته البشرية علي هذا الطريق الطويل هو انجاز عظيم بكل المقاييس, وان لم يكتمل. لقد خرج الانسان من الوحش ليتشكل انسانا, ولكننا سوف نعرف عبر قراءتنا لكل مراحل هذا التشكل ان الجنس البشري كافح كفاحا مجديا وطويلا. ولايزال هذا الكفاح متواصلا في كل ارجاء العالم من اجل القضاء علي ما تبقي في تركيب الانسان وفي تشكيل المجتمعات من هذا التوحش القديم. قال "نجيب محفوظ" ان الوحش قديم والانسان جديد ولأن الانسان جديد فما تزال لديه بقايا مهمات عالقة من صراعه ضد الوحش ومن اجل انسانيته, وايضا من اجل مواصلة انجازاته علي طريق الحضارة. واكتشف المفكرون والمناضلون وهم علي الطريق الطويل من اجل تغيير العالم حتي يصبح جديرا بالانسان, هذا الانسان الذي قطع المسيرة الطويلة جدا للخروج من الوحش, اكتشفوا ان بقايا هذا الوحش اخذت تتجسد بشكل واضح في تكالب البشر علي التملك واكتناز الثروات خوفا من المستقبل. واجتهد المناضلون والمفكرون عبر العصور لابتداع الطرائق والاشكال لتحرير الانسان من الخوف, خاصة ذلك الخوف البغيض من العوز, وشح الموارد بعد ان عرفت الانسانية اشكالا مخيفة من المجاعات كادت تعيد الانسان الي الوحش. وانتصرت الثورة الاشتراكية الاولي في روسيا, ونشأ في ظلها الاتحاد السوفيتي وهو ما سبق ان وصفته في مقال ببروفة الخلاص الانساني الشامل, ولكن الثورة انتكست وانتصر الوحش مؤقتا فهو القديم والمدرب.. هو الوحش, ومع ذلك فإن الصراع لم يتوقف, بل انه سوف يتواصل حتي يكون بوسع الانسان- يوما ما- ان يقول انه انتصر علي الوحش, وانه وصل بعد رحلة شاقة الي بر أمان يصون انسانيته ويهدئ مخاوفه من الزمن. ومع ذلك بقي وحش التملك كامنا ليتسبب في الحروب, ويولد اشكالا مختلفة من الاستعمار والاستغلال وقهر الشعوب وسحق الضعفاء, ويولد علي صعيد الافكار والفلسفات كل صور العنصرية وادعاءات التفوق لجنس أو شعب. ويتواصل كفاح الشعوب ضد هذه الافات البغيضة التي اخذ بعدا لأن يتخلص منها بالتدريج وان كانت الاثمان باهظة, وقد دفع البشر هذه الاثمان دفاعا عن انسانيتهم وعن المثل العليا التي خلقوها عبر مسيرتهم ودافعوا عنها. ولاتزال معركة الانسانية من اجل اقرار هذه القيم العليا متواصلة, كما يتواصل سعي البشر لكسبها, وقد علمنا التاريخ وتجاربنا أنه ما ضاع حق وراءه مطالب, ولن تضيع حقوق البشر مهما طال الزمن.