لم تكن رحلة الكاتب الصحفى والمؤرخ الكبير الراحل صلاح عيسى فى الحياة سهلة أو ميسرة، فقد عاني كثيرا حاملاً فوق كتفه قيثارة الوطن عازفاً بها فى كل الدروب التي سلكها رغم صعوبة المشوار ومشقة المسير. بدأ «عيسى» مشروعه الثقافي أديباً فقد كتب عدة مجموعات قصصية ورواية تسجيلية تعد هى الأولى من نوعها، كتبها عن فترة المعتقل، مستعينًا بالتفاصيل الصغيرة، التي كان يعشق التدقيق فيها، ساردًا أحداثا هامشية تؤدي إلى أحداث كبرى، وهذه هي إحدى سمات الإبداع الجيد، أن تبدأ من الخاص، من الهامش، من المهمل، لتنتهي إلى قضايا عامة، تذكرنا تجربة «صلاح عيسى» فى كتابته عن المعتقل السياسي بعدد كبير من المبدعين الذين ظلوا سنين فى معتقلات ثورة يوليو مثل ألفريد فرج، وصنع الله إبراهيم، وفتحي عبدالفتاح، ونبيل زكي، ومحمود أمين العالم، وأحمد فؤاد نجم، وغيرهم من الذين سجلوا فى أعمالهم الأدبية وأشعارهم ومذكراتهم اللحظات الصعبة التي عاشوها فى معتقلات الأوردي وأبو زعبل والواحات وغيرها، بل إن بعضهم بدأ رحلته الإبداعية من داخل المعتقل مثلما حدث مع الروائي صنع الله إبراهيم، الذي كتب روايته الأولى «تلك الرائحة» فى معتقل الواحات على ورق « بفرة» السجائر. ولم تكن هذه هي المرة الوحيدة التي اعتقل فيها «عيسى» فقد اعتقل بعد ذلك أكثر من مرة نتيجة آرائه السياسية ومواقفه الوطنية، وقد سجل الفنان التشكيلي عزالدين نجيب بعض هذه المواقف فى كتابه «رسوم الزنزانة» ، والذي رسم فيه عدة بورتريهات لصلاح عيسى. دقة التصوير تميزت كتابات «عيسى» الأدبية بدقة التصوير وتنوع الأحداث وكثافة المعرفة، بمعنى أنه كان يكتب ما يمكن أن أسميه ب «السرد المعرفي» ذلك السرد المتكئ على خلفيات معرفية وفلسفية عميقة ورؤية واقعية ثاقبة، مما جعل كتاباته القصصية والروائية متجاوزة للسائد الأدبي وقتها فى فترة الستينيات، وربما هذا ما انطبع على كتاباته الصحفية بعد ذلك، فهو من ذلك الجيل الذي دخل «الصحافة» من باب «الأدب» لذا كان أسلوبه الصحفي مرناً وعميقاً يحتفي بجماليات الكتابة العربية الرصينة بما فيها من امتداد معرفي وثقافي رائع. كذلك كان أسلوبه فى الكتابة التاريخية التي برع فيها وقدم من خلالها نموذجاً للمؤرخ المثقف الباحث عن التفاصيل التي تؤدي إلى إبراز المواقف الوطنية للشخصيات التي يكتب عنها، وهذا ما نراه جلياً فى كتابه المهم عن «الثورة العرابية» والذي يعد من أهم المراجع عن هذه الثورة، التي أسست فيما بعد للثورات الفارقة فى التاريخ المصري الحديث مثل ثورة 1919، وثورة يوليو 1952. أما كتابه «مثقفون وعسكر» فهو من أهم الكتب التي تناولت علاقة المثقف بالسلطة خلال الخمسين عاماً الماضية، وكتب فيه عن أبناء جيله الذين أسسوا لذائقة مغايرة فى الأدب والسياسة والفكر المصري المعاصر. أما كتابه عن «ريا وسكينة» والذي تحول إلى مسلسل تليفزيوني شهير بطولة عبلة كامل وسمية الخشاب، وسامي العدل ورياض الخولي، فقد قدم فيه وثيقة تاريخية اجتماعية مهمة عن واحدة من أهم الجرائم التي حدثت فى مصر فى عشرينيات القرن الماضي، وقد دعم كتاباته بمجموعة من الوثائق وملف التحقيقات التي أجريت مع أشهر سفاحتين عرفتهما مصر فى القرن العشرين. وقد مزج فى كتابه ما بين الأسلوب الأدبي والرصد التاريخي الدقيق، مركزاً على البعد الإنساني للشخصيات، والمؤثرات التي دفعتها إلى سلوك طريق الجريمة. كما جاء كتابه «هوامش على دفتر الوطن» سجلاً متنوعاً لمجموعة من الأحداث التاريخية التي مرت بها مصر فى العصر الحديث. تميزت كتابات «صلاح عيسى» التاريخية بعدة سمات أولها: الدقة فى رصد التواريخ، والاعتماد على الوثائق ومقارنتها، بأكثر من مصدر. ثانيا: التحليل العميق للأحداث، وربطها بعصرها، وتحليل الأبعاد النفسية والسياسية والاجتماعية التي أدت إليها. ثالثا: التنوع فى الكتابة التاريخية حيث لم يتخصص فقط فى التأريخ السياسي «بل امتد نشاطه إلى «التأريخ الاجتماعي «وكذلك» التاريخ الثقافي «مثلما حدث مع بعض أفلام يوسف شاهين، والتي وصلت إلى ساحة المحاكم مثل فيلم «المهاجر» وقد أعد ملفاً كاملاً عنه فى مجلة «أدب ونقد» من جزءين تناول فيه القضية وملفها القضائي شاملاً التحقيقات والشهادات. كما كان مهتماً بالتاريخ الدستوري وهذا ما نراه جلياً فى كتابه المهم «دستور فى صندوق القمامة» والذي تناول فيه دستور 1923، وقد صدر الكتاب عن مركز القاهرة لحقوق الإنسان. وفى المجال الصحفي قدم «صلاح عيسى» نموذجاً فريداً فى الكتابة الصحفية واشتهر بمقالته الأسبوعية فى جريدة الجمهورية والتي كانت تحمل عنوان «مشاغبات» والتي ظل يكتبها فى كل الجرائد التي عمل بها ومنها جريدة القاهرة، التي رأس تحريرها لأكثر من خمسة عشر عاماً، ثم رئيساً لمجلس إدارتها حتى وفاته. وكانت آخر مقالاته تحت عنوان «فى الذكرى السابعة لمأساة الربيع العربي» والمنشورة أمس الثلاثاء 26 ديسمبر 2017، والذي أكد فيه موقفه من هذه الثورات قائلاً : « إن ثورات الربيع العربي كانت فى جوهرها انتفاضات شعبية قامت بها شعوب الدول الخمس تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، ضد الثورات التي أسست للأنظمة التي كانت تحكمها، والتي استقبلتها يوماً بالأفراح والأناشيد، والآمال الواسعة، فى أنها قد حققت تحرير بلادها من الاستعمار الأجنبي، أو على الأقل استكملته وسوف تجلب لها الرخاء والسلام والأمن والاستقرار، فى البحث عن إجابة للسؤال، تقافزت أمامي عوامل عدة، منها أن الربيع العربي، كان مع بعض التجاوز بمثابة ثورة ضد الثورة، وانتهيت إلى أنه كان إعلاناً بإفلاس النظم الوطنية العربية، التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية ». صلاح عيسى كان مؤرخاً يكتب التاريخ بروح الأدب، وربما هذا ما أعطى لكتاباته مذاقاً مختلفاً، ومصداقية جعلته فى الصف الأول من مؤرخي مصر فى العصر الحديث. أما الجانب الإنساني فى حياة راحلنا الكبير فحدث عنه ولا حرج فقد عاش متسامحاً، محباً للوطن، مقدماً العديد من المواهب فى الأدب والفكر والفن..