رأيته من بعيد… كان الحفل صاخباً يعج بكل الوجوه، وكل الأشكال، ولكن نظري لم يكن ليخطئه… لا يمكن للمرأة أن تتجاوز تلك العيون الباحثة التي تتطلع إلي التهام كل البشر التهاماً حتي تعثر علي ضالتها المنشودة… هل أنا فعلاً ضالته التي يبحث عنها؟… أم أنه في كل مكان له أثر، ومعارك؟… لايبدو أنه قليل الخبرة في هذا المجال… هاهو يقترب مني… يجلس إلي طاولتي بلا استئذان… أسأله: من هو؟… ولماذا هو جالس علي طاولتي؟… يجيبني بأنني من وجهت إليه الدعوة.. لقد دعته عيناي للمثول بين يدي، فلبي النداء صاغراً، أرد عليه بدعابة سمجة: أسأله عن اسم الفيلم الذي يقتبس منه كلماته… تتوقف الكلمات في جوفه قبل أن تبدأ… وأحس فجأة كأني كنت أستمع إلي جوقه تغني، وتعزف أحلي الألحان ثم قمت بطردهم جميعاً، فعم المكان خواء غريب، وصمت مدوى. ولكنه لعجبى لا ينصرف… بل يبتسم قائلاً: أعرف أنك لابد أن تدافعين عن كيانك ضد أي مهاجم… ولكن وسائلك تلك وسائل عتيقة… عفي عليها الزمن… أردد بينى وبين نفسى: هو يثأر لنفسه فى الحال، خطر ذاك النوع من البشر!… يدعونى للرقص: أقبل.. ثم أرفض.. ثم أقبل.. يضحك من قلبه… يسألنى: – خائفة؟!… أجيب بثقة: * مم أخاف؟.. منك؟!… يعاود الضحك، ويقول: * بل من الحب… تبدو على أمارات التعجب وأنا أسأله: * هل الوقوع فى الحب بهذه السهولة؟ يجيب: * معى كل شئ ممكن…
يدور بى دورات كاملة أحيانًا، ثم نصف دورة… لا نصطدم بأى شئ، تكون حركتنا أشبه بالتحليق، نرتفع وننخفض، ولكننا أبدًا لانهبط… فى البدء حاولت الاستكشاف… لكن عذوبة الموسيقى، وخفة حركته فى الرقص أنستنى أى محاولة للتفكير … وجدتنى معه أدور … أحلق … نترك هذى الأرض و نصعد لأعلى … هناك دورتنا تكتمل … ننفصل عن البشر والموسيقى والمكان … تصبح لنا موسيقانا… ومكاننا… وكوننا الخاص بنا … فى لحظة خاطفة يهمس فى أذنى … أشعر بموسيقى تلفنى، وتأخذنى إلى عوالم سبق وأن حلمت بها … هل قال: أنت جميلة ؟.. هل قال : أنت فاتنة؟.. هل قال : أنت من أبحث عنها كل زمنى ؟.. هل قال: من الآن أنت عمرى ؟.. هل قال : أحبك؟!.. لم يقل، ولكنى سمعت.. لست أدرى … لكن العبارة التى قالها … أخذتنى … أغمضت عينى لأتذوق عذوبتها … فى لحظات، كنا قد عدنا للأرض … والموسيقى… والحفل الصاخب… فجأة كان الناس ملتفون حولنا. لحظات هى التى انفصلنا فيها عن العالم، لكن العالم لم ينفصل عنا، ولم يتركنا وحدنا… كان الخجل يتملكنى، والذهول يلفنى … تصورت للحظات أننا وحدنا، لنا خصوصيتنا… لكنهم صفقوا لنا، شكرهم بابتسامة خبير فى مثل هذه الظروف … كانت أعين الفتيات تلتهمه، تحوطه بابتسامات مشجعة وداعية … بينما ترمينى بنظرات ضيق شديدة … كنت فى داخلى ممتلئة بالفرح والبهجة … قلت لنفسى، لم أذهبْ إليه … لكنه جاء إلى وحدى … ألا يكفينى هذا للرد عليهن. عدنا لمكاننا .. كانت ابتسامته موزعة بين الفتيات المحيطات بنا … و كنت أنظر إليه فقط، حين قدمت إليه إحداهن، ودعته للرقص معها … وقف وابتسم لها… وانحنى معتذراً … وجلس … قلت : .. هو لى فقط… تحدث كثيراً … ورددت قليلاً… أخبرنى أنه يعرفنى من زمن … و أنه كان ينتظر دعوتى … فتعجبت، و لم أرد … لكنه أكمل : عندما دعتنى عيناك الساحرتان الليلة لبيت دعوتك … كان حديثه صادمًا وممتعًا … فأنا لم أعرفه من قبل، ولم أدعه … هل يكمل لعبته.. ؟ لعبة الثقة والتأثير.. ؟ التزمت الصمت … لكن اللعبة أعجبتنى، وأقنعتنى … جميل أن تدخل فجأة فى مباراة من هذا النوع الذى قد لا تقابله كثيرًا فى حياتك..! ولكن أى مباراة..؟ هل المشاعر مباراة..؟ كيف أجاريه فى لعبته..؟ كيف أترك له قيادة اللعبة.. ؟ كيف أترك له نفسى..؟ كان يحدثنى، وكنت أحدث نفسى … فجأة وقف … وقفت… طلب رقم هاتفى… كالمنومة مغناطيسيًا كتبته له على ورقة صغيرة، وأعطيته إياه … منحنى بطاقة شخصية أنيقة، وقال : فيها رقم تليفونى، سأنتظر مكالمتك … مد يده … مددت يدى… عندما تلامست يدانا كنت أشعر أن عمرًا يأتى، وعمر آخر يولى … ضغط بلطف على يدى، أحسست بأنه يرسل رسائل كثيرة … كنت قد أطلت النظر فى عينيه، لكننى فجأة تنبهت أن يدى فى حضن يده… سحبتها … غادر سريعاً … ترك الحفل كله… فى ركن صغير فى شقتى، أجلس ناظرة لأعلى … بجوارى اسطوانة تصدح فيها فيروز بسكن الليل: و مليكُ الجنِ إن مرَ يروحُ و الهوى يثنيه .. فهو مثلي عاشقٌ كيف يبوحُ بالذي يضنيه.. وأمامى كوب شاى ساخن، و بجواره طبق يحوى بعض النعناع الأخضر الطازج … يمضى الوقت … والشاى كما هو، والنعناع كما هو … أُمسك الموبايل فى يدى، والبطاقة التى تركها لى فى اليد الأخرى … أتردد … أنقل الأرقام إلى الهاتف، ثم أعود ساكنة … كل فترة أتنقل من النظر إلى السقف، إلى النظر إلى الموبايل، والعكس … ربما أنتظر إتصالًا، أو أريد أن أقوم باتصال، لكنى لا أفعل… أكرر الضغط على الموبايل لأوقف رناته المفاجئة … أنظر إلى الرقم الظاهر على شاشة الموبايل، وأقارنه بالرقم فى البطاقة. … أضحك من قلبى، أحس بسعادة منقوصه … أبدأ فى إمساك كوب الشاى، وأضع فيه النعناع، وأقلبه بهدوء، ثم أشربه بسعادة … وعندما يرن جرس الموبايل للمرة الثانية … واضعه على أذنى.. أرد قائلة بغير تردد : لا.. الرقم سليم، لكن لا يوجد أحد هنا بهذا الاسم.. ! فى تجوالى الدائم فى شقتى … أعيد على نفسى السؤال عدة مرات … هل حدث هذا بالفعل … ؟! أما السؤال الأكثر إلحاحًا فهو: هل سيعاود الإتصال مرة أخرى… ؟!