أجندات !!! فريدة النقاش تسود في واقع الجمود السياسي مثل ذلك الذي نعيشه حالة من تفاقم اللغة المتداولة وإنحدارها إلى المزيد من التفاهة، والانشغال بصغائر الأمور دون الأساس منها، وفي مثل هذه الحالة تتطابق تقريبا لغة كل الأطراف، ومن يتابع الدعوة التي أطلقتها جماعة " الإخوان المسلمين " جنباً إلى جنب " المقاول الفنان " كما وصفته أجهزة إعلامية، وهو يعيش خارج البلاد أي الدعوة للغضب والتظاهر والتي استجاب لها أفراد قلائل جدا، ومن يدقق في قاموسها سوف يكتشف أنه هو نفس القاموس الذي استخدمه المعارضون لها في ردهم عليها . يستخدم الطرفان مصطلح الأجندات الخارجية، ويصف الطرفان الاحتجاجات الجماعية بالفوضى، كما يصفون المعارضين بالمارقين، والخائنين للدين والوطن، ويلجأ الطرفان أيضاً للقاموس الديني ويتوقف أحدهما عند " حد الحرابة " الذي شرعه الإسلام … الخ . ويحتاج هذا القاموس إلى دراسة متأنية ومدققة لدلالاته، ولعل أول ملاحظة أن تكون تلك المسافة الكبيرة بين مفردات هذا القاموس من جهة، وبين القاموس السياسي العقلاني من جهة أخرى، والقاموس السياسي العقلاني يفتح المجال أمام النقاش السياسي الجدي، بما فيه من اتفاق واختلاف، وتعدد للمواقف ووجهات النظر . وسوف نلاحظ أن مثل هذا الحوار السياسي الجدي حول القضايا الأساسية في حياتنا أصبح محصوراً بين نخب محدودة العدد والتأثير ولا علاقة لها بالجمهور العريض الذي من المفترض أن يكون هو المعني الأول بمثل هذه القضايا التي تمس حياته ومصالحه في الصميم . ويكاد إبعاد هذا الجمهور الواسع عن الحوار السياسي الجدي وإغراقة بدلاً من ذلك فيما هو تفصيلي وهامشي وتافه، أقول يكاد يكون عملاً متعمداً، لأن مثل هذا الجمهور غير المسيس المنغمس في حياته الصعبة هو بالقطع أسلس قياداً، وأسهل انقيادا للدعاية الرسمية التقليدية التي تحاصره من كل الجهات . ومع ذلك فإن التطور الكبير في وسائل الإعلام، وتعدد مصادر المعلومات المتاحة وتنوعها ساعد هذا الجمهور على تكوين رؤيته ومواقفه الخاصة في كثير من الأحيان . وليس من المنطقي أو المتوقع أن ننتظر حواراً سياسياً جديا واستخداما لائقاً لقاموس مفردات ملائم لمثل هذا الحوار ما دمنا نفتقر في الأصل إلى حياة سياسية نشيطة وحية، بل إن بعض أولى الأمر منا يرون أنه لا فائدة ترجي من وجود الأحزاب السياسية، خاصة لو كانت هذه الأخيرة معارضة، ويسهل القول الشائع أن هذه الأحزاب هي مجرد " مكلمة " أي ساحة لتفريغ طاقة زائدة لدى البعض، فضلا عن أنها تعطل " المسيرة " على حد التعبير الشائع . وفي مثل هذا المناخ يصبح ما أسميه " قاموس المكايدة " شائعاً باعتباره هو السياسة، وهو للأسف القامومس الذي يصف الحالة التي تغيب فيها السياسة عن الحياة العامة للمواطنين، رغم أن السياسة هي الجوهر الحقيقي لهذه الحياة، وتهميش السياسة يفتح الباب للشائع من الرؤى السطحية، والانحيازات المسبقة دون تدقيق وصولا إلى التفسير غير العقلاني لكل ما يستجد، أو حتى يدور في العلاقات الاجتماعية ومن هنا ينبع التشابه بين مفردات القواميس المختلفة مؤيدة ومعارضة ، وتتولد مفردات جديدة من مثل " المعارضة من أجل المعارضة " و هو ما يترتب عليه النظر بإرتياب إلى الأحزاب المعارضة والمفكرين والمثقفين الذين ينادون بأفكار ووجهات نظر مختلفة . ويعود بنا واقع الحال هذا إلى مفهوم الحزب الواحد في الممارسة الفعلية، رغم النص في الدستور على أن النظام السياسي المصري هو نظام تعددي، ورغم حقيقة وجود أحزاب أخرى غير الحزب الحاكم، وليس مفيدا أن نعتبر أحزاب المعارضة مجرد ضحايا للتهميش، فهذه الأحزاب مسؤولة، ولو جزئياً عن مثل هذا التهميش، لأنها لم تسع بشكل جدي للوصول بأفكارها ورؤاها المختلفة، إلى الجمهور حتى يكون بوسعه أن يختار، وأسهمت هذه الأحزاب بتقاعسها في تفاقم ظاهرة الحزب الواحد مجدداً، والأخطر من ذلك أنها استكانت لعملية تغييب السياسة، دون أن تبذل جهداً مضاداً حتى تصبح السياسة حاضرة في المجال العام بدلا من بقائها أسيرة النخب المحدودة . من المعروف أن النقد الذاتي هو من أصعب الأمور إن على الأحزاب أو الأفراد، والأسهل منه بطبيعة الحال إيجاد مبرر خارجي نعلق عليه التقصير وحتى الإخفاق. تتضافر كل هذه العوامل لتنتج القاموس الذي نحن بصدده، إذ أن القضايا الأساسية والكبرى تغيب عنه، ويشيع بين الجمهور العادي القول بأن السياسة هي من إختصاص الحكومة وحدها، وعلى الناس أن يهتموا فقط بشؤونهم الخاصة، وكلها أجندات كما يقول الشباب ساخرين . وهكذا نمهد بأنفسنا الطريق إلى الاستبداد، والاستبداد ليس نهجاً سياسياً فقط، ولكنه أيضا ممارسة مجتمعية، وبذرة يجري زرعها دون وعي أحيانا في عمق الحياة الاجتماعية، يغذيها في المقام الأول غياب السياسة، وتراجع قاموسها العقلاني لتحل محله لغة " المكايدة " والصراعات الصغيرة والتافهة حول التفاصيل التي يستعيض بها الناس عن إبعادهم عن الشؤون العامة الأساسية، وبذا يصبح الاستبداد هو سيد الموقف خاصة بعد سيادة حالة من الملل في أوساط المثقفين بعد أن توقفوا طويلا أمام أزمة الحريات العامة دون جدوى، ثم استكانت الأحزاب السياسية بدورها لحالة التهميش وانشغل الجمهور عن كل هذا بمصاعب الحياة .