كتبت من قبل مقالا بعنوان: ¢هل من عقد ¢ للحوار اقترحت فيه أن نخصص عقدا كاملا من الزمن لتعليم الناس فن الحوار بدءاً من الروضة إلي الجامعة إلي المصنع. مراكز الشباب. الأندية. وفي كافة التجمعات. وليس هذا بغريب أو بعيد المنال فهناك دول خصصت وقتا لتعليم الناس الابتسامة والضحك في وجه الآخر. ولا يغيب عنا أن هناك ثقافة متأصلة للحوار في الاسلام الذي هو في الأساس لا يكون إلا مع الآخر. وتحديداً مع الآخر المختلفپ وهدفه هو شرح وجهة النظر وتبيان المعطيات التي تقوم عليها. وفي الوقت نفسه الانفتاح علي الآخر لفهم وجهة نظره ثم للتفاهم معه. ذلك بان التفاهم لا يكون من دون فهم متبادل. والحوار هو الطريق الي استيعاب المعطيات والوقائع المكونة لمواقف الطرفين المتحاورين. ثم الي تفاهمهما. ومن ثقافتنا الاسلامية أن من اجتهد وأصاب الحق فقد أُجر أجرين. أجر الاجتهاد وأجر الاصابة للحق. ومن اجتهد وأخطأ فقد أُجر أجراً واحداً لاجتهاده ولم يؤثم علي ¢الخطأ¢. نفهم من ذلك ان الاجتهاد كأي عمل فكري انساني مفتوح علي الخطأ والصواب فهو ليس مقدساً ولا مطلقاً ولا ثابتاً. بل هو انساني محدود. ومتغير. وفي ثقافتنا الاسلامية أيضاً ان ¢رأيي صحيح يحتمل الخطأ. ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب¢. نفهم من ذلك أيضاً انه ليس لأحد أن يدعي الحقيقة المطلقة. وليس له أن يخطئ الآخرين لمجرد اقتناعهم برأي مخالف» فالحقيقة نسبية. والبحث عن الحقيقة حتي من وجهة نظر الاخر المختلف طريق مباشر من طرق المعرفة. وهو في الوقت نفسه أسمي انواع الحوار. وفي ثقافتنا الاسلامية كذلك أن الحوار يتطلب أولاً وقبل كل شيء الاعتراف بوجود الاخر المختلف. واحترام حقه ليس في تبني رأي او موقف او اجتهاد مختلف فحسب. بل احترام حقه في الدفاع عن هذا الرأي او الموقف او الاجتهاد ثم واجبه في تحمل مسؤولية ما هو مقتنع به. ولأن الحوار يحتم وجود الآخر. فلا بد من تعريف الآخر. وهو تعريف لا يمكن أن يتم في معزل عن الأنا. إن فهم الآخر أياً كان هذا الآخر ثم التفاهم معه لا يتحققان -كما يري البعض- من دون أن تتسع الأنا له. وبالتالي كلما سما الانسان وترفع عن أنانيته أوجد في ذاته مكاناً أرحب للآخر. إن الحقيقة ليست في الأنا. إنها تتكامل مع الآخر حتي في نسبيتها. وهي لا تكتمل في إطلاقيتها إلا بالله. والحوار مع الآخر اكتشاف للأنا وإضاءة ساطعة علي الثغر والنواقص التي لا تخلو منها شخصية انسانية. والآخر قد يكون فرداً وقد يكون جماعة. وفي الحالين قد يكون مؤمناً. وقد يكون كتابياً وقد يكون كافراً. الآخر المؤمن هو للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً. والآخر الكتابي في المجتمع الاسلامي هو في ذمة المسلم. والرسول يقول ¢من آذي ذمياً فقد آذاني¢. أما الآخر الكافر. فالعلاقة معه مبنية علي قاعدة ¢لكم دينكم ولي ديني¢. وفي كل الحالات. فان العلاقة بين المسلم والآخر يختصرها الحديث الشريف الذي يقول فيه الرسول صلي الله عليه وسلم ¢المسلم من سلم الناس من يده ولسانه¢. إذن فالإسلام يقرر الاختلاف كحقيقة انسانية طبيعية. ويتعامل معها علي هذا الاساس. "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا" "سورة الحجرات. الآية 13". خلق الله الناس مختلفين اثنياً واجتماعياً وثقافياً ولغوياً. ولكنهم في الاساس ¢أمة واحدة¢ كما جاء في القرآن الكريم: "كان الناس أمة واحدة فاختلفوا" "سورة يونس. الآية 19". اي ان اختلافاتهم علي تعددها لا تلغي الوحدة الانسانية. تقوم هذه الوحدة علي الاختلاف. وليس علي التماثل او التطابق. ذلك ان الاختلاف آية من آيات عظمة الله. ومظهر من مظاهر روعة ابداعه في الخلق. يقول القرآن الكريم: "ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم والوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين" "سورة الروم. الآية 22". والقاعدة الاسلامية كما حددها الرسول محمد هي أن "لا فضل لعربي علي أعجمي ولا لأبيض علي أسود إلا بالتقوي". وبالتالي فإن الاختلاف العرقي لا يشكل قاعدة لأفضلية ولا لدونية. فهو اختلاف في إطار الأمة الانسانية الواحدة. يحتم احترام الآخر كما هو علي الصورة التي خلقه الله عليها. اذا كان احترام الآخر كما هو لوناً ولساناً "اي اثنياً وثقافياً" يشكل قاعدة من قواعد السلوك الديني في الاسلام. فان احترامه كما هو عقيدة وايماناً هو احترام لمبدأ حرية الاختيار والتزام بقاعدة عدم الاكراه في الدين. فالقرآن الكريم يقول: "لكل وجهة هو مولِّيها" "سورة البقرة. الآية 148". وفي اشارة واضحة الي تعدد التوجهات يقول ايضاً: "وما بعضهم بتابع قبلة بعض" "سورة البقرة. الآية 145". ذلك انه مع اختلاف الالسنة والألوان. كان من طبيعة رحمة الله اختلاف الشرائع والمناهج. وهو ما اكده القرآن الكريم بقوله: "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا. ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة. ولكن ليبلوكم فيما أتاكم. فاستبقوا الخيرات إلي الله مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون" "سورة المائدة. الآية 48". و"الله يحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون" "سورة آل عمران. الآية 141". و"لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم" "سورة هود. الآية 118". أرسي القرآن الكريم قواعد واضحة للاعتراف بالآخر وبوجهة نظره اجلاء للحقيقة. بما في ذلك. بل في مقدمة ذلك. الحقيقة الإلهية. ففي حوار الله والشيطان. كما ورد في سورة الأعراف.: "وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَپ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرى مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّاري وَخَلَقْتَهُ مِن طِينيپ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَي يَوْمِ يُبْعَثُونَپ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَپ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَپ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَپ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ" سورة الأعراف. الآية 11- 18. من خلال هذا الحوار الإلهي مع الشيطان تبرز حقيقة الثواب والعقاب. الخير والشر. الإيمان والكفر. وما كان لصورة هذه الحقيقة ان تكتمل من دون هذا الحوار. وما كان لهذا الحوار ان يقوم من دون وجود الآخر. وفي حوار الله مع الأنبياء تبرز حقيقة الاعجاز الإلهي: "وإذ قال إبراهيم ربِ أرني كيف تحييِ الموتي؟ قال أولم تؤمن؟ قال بليَ ولكن ليطمئن قلبي. قال فخذ أربعة من الطير فصُرهُنّ إليك ثم اجعل علي كل جبل منهن جزءاً ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم" "سورة البقرة. الآية 260". وفي حوار الله مع عباده. تبرز حقيقة العدل الإلهي. حيث ورد في الآية الكريمة: "قال ربِ لمَ حشرتني أعمي وقد كُنتُ بصيراً. قال كذلك أتتكَ آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسي" "سورة طه. الآية 125". وفي حوار الأنبياء مع الناس. تبرز حقيقة التربية الإلهية. في الآية الأولي من سورة المجادلة: "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الي الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير". كما تبرز حقيقة الهداية الإلهية: "ألم ترَ إلي الذي حاجّ إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحييِ ويميت. قال أنا أحيِ وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبُهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين" "سورة البقرة. الآية 258". وفي حوار الناس مع الناس. تبرز حقيقة الجشع الانساني: "فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعز نفرا" "سورة الكهف. الآية 34". تبين هذه الآيات الكريمة ان الحوار يتطلب وجود تباينات واختلافات في الموقع وفي الفكر وفي الاجتهاد وفي الرؤي. وفي ذلك انعكاس طبيعي للتنوع الذي يعتبر في حدّ ذاته آية من آيات القدرة الإلهية علي الخلق ومظهراً من مظاهر عظمته وتجلياته.