من الأيام العظيمة في الإسلام والوقوف فيه هو الركن الأعظم في الحج. يعتق الله فيه من النار ما لا يعتق في غيره. ويباهي الملائكة بالواقفين الذين أتوه شعثاً غبراً ضاحين من كل فج عميق. ويشهدهم أنه قد غفر لهم. ولم ير الشيطان في يوم أصغر ولا أدحر منه في هذا اليوم كما وردت بذلك الأحاديث. انه موقف تجلت فيه وحدة المسلمين وأخوتهم. وظهرت فيه المساواة بما لم تظهر في غيره. تلاقوا علي الخير ليذكروا اسم الله ويشهدوا منافع لهم. ويعمروا البيت الذي جعله الله للناس مثابة وأمناً. ومباركاً وهدي للعالمين. ويوم عرفة بهذه الصورة الروحية والاجتماعية عيد لمن وفقهم الله للوقوف به كما رواه الترمذي وغيره وصححه عن عقبة بن عامر عن النبي صلي الله عليه وسلم "يوم عرفة ويوم النحر وأيام مني عيدنا أهل الإسلام. وهي أيام أكل وشرب". وكان وقوف النبي صلي الله عليه وسلم بعرفة في حجة الوداع يوم جمعة ونزل فيه قول الله سبحانه "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" المائدة "3" كما صحت بذلك الأحاديث. فكان عيداً جمع عدة أعياد. وكانت بهجة المسلمين فيه عظيمة. ولهذا لم يشرع لهم النبي صلي الله عليه وسلم صيامه. وهو الحريص عليه من قبل. ذلك انهم ضيوف علي مائدة الله ينعمون ببره وفضله. وهم في اجتهادهم في الدعاء وتنقلهم بين المشاعر ومعاناتهم البدنية يحتاجون إلي مزيد من القوة ليتم عملهم علي الوجه الأكمل. ودين الله يسر لا حرج فيه. كما كان النبي صلي الله عليه وسلم لا يحب أن يفرد يوم الجمعة بصيام. فكيف به في هذا الموقف العظيم والعيد الأكبر؟ جاء في الصحيحين عن ميمونة رضي الله عنها أن الناس شكوا في صيام النبي صلي الله عليه وسلم يوم عرفة. فأرسلت إليه بحلاب وهو واقف في الموقف فشرب منه والناس ينظرون. وأخرج النسائي والترمذي وابن حبان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: حججت مع النبي صلي الله عليه وسلم فلم يصم ومع أبي بكر كذلك. ومع عثمان فلم يصم وأنا لا أصومه ولا آمر به ولا أنهي عنه. ومن هنا رأي بعض الأئمة كراهة صيامه للحاج. وترك بعضهم الخيار لمن يستطيع. يسن لغير الحجاج أن يصوموا يوم عرفة. بل يسن لهم صيام الأيام السابقة عليه من ذي الحجة بل يسن لهم الإكثار من الذكر وسائر الأعمال الصالحة. كما كان يفعل النبي صلي الله عليه وسلم. روي أبو داود عن حفصة: أربع لم يكن يدعهن رسول الله صيام عاشوراء وتسع ذي الحجة وثلاثة أيام من كل شهر والركعتين قبل الغداة. وروي البخاري وغيره عن النبي صلي الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلي الله عز وجل من هذه الأيام يعني أيام العشر. قيل: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع منهما بشيء". وفي صوم يوم عرفة روي مسلم عن أبي قتادة: سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن صوم يوم عرفة فقال: "يكفر السنة الماضية والباقية" أي لو عاش وأذنب كفر الله ذنوبه. وهي الذنوب الصغائر علي ما حققه الكثيرون. فإن لم توجد كفر من الكبائر. فإن لم توجد كان الصيام رفعاً للدرجات والله ذو الفضل العظيم. وروي الطبراني بإسناد حسن ان مسروقاً دخل علي عائشة رضي الله عنها يوم عرفة فقال: اسقوني. فقالت عائشة: يا غلام اسقه عسلاً. ثم قالت له. وما أنت يا مسروق بصائم؟ قال: لا. اني أخاف أن يكون يوم الأضحي. فقالت: ليس ذلك» إنما عرفة يوم يُعرِّف الإمام أي يقف بعرفة. ويوم النحر يوم ينحر الإمام. أو ما سمعت يا مسروق أن رسول الله كان يعدله بألف يوم. فإذا كان لصوم يوم عرفة فضل تكفير السيئات لمدة عامين فإن له فضلاً وراء ذلك يعدل صيام ألف يوم في المنح والعطايا التي يمنحها الله للصائمين. وبصرف النظر عن مفهوم العدد هل يراد به التحديد أو التكثير علي ما هو المألوف في مثل هذا الأسلوب. فإن صيام هذا اليوم له فضله العظيم الذي ينبغي أن يحرص عليه كما كان يحرص النبي صلي الله عليه وسلم. فلتكن لنا فيه أسوة حسنة ولنتمم رحلة الأيام العشر بالتضحية يوم النحر. فما عمل آدمي يوم النحر أحب إلي الله من إهراق الدم. وانه لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها. وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفساً. كما رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه. فلنحافظ علي سنة أبينا إبراهيم. وليكن رائدنا الإخلاص في كل أعمالنا وليكن سلوكنا ترجمة واقعية وتجسيداً حياً لعبادتنا فإنما الطاعة بآثارها والله ولي التوفيق.