تمتلئ الأدبيات العربية والمصرية بالكثير من الأقوال التي تدعو للتسامح حيث تقول أبرز تلك الأدبيات: صبح ولا تقبح والمسامح كريم - سامحك الله - السماح رباح - رب كلمة سلبت نعمة - اللي بيغاضي ما بيراضي - أحسن الجود العفو عند المقدرة - خلي الحساب ليوم الحساب - الصلح سيد الأحكام - إذا بغضت خلي للصلح مطرح - العتاب صابون القلوب - كثر العتاب بيفرق الأحباب - والقائمة طويلة. أما في مجال الشعر فالقائمة طويلة كذلك وربما كانت أطول. حسان بن ثابت شاعر الرسول الكريم "صلي الله عليه وسلم" قال. حتي لو خالفناه الرأي ذهبت قريش بالسماحة والندي واللوم تحت عمائم الانصار أما بشار بن برد فقد قال: إذا أنت لم تشرب مرارا علي القذي ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديق . لن تلقي الذي لا تعاتبه والمثير للدهشة أن المجتمع الذي يدين بالدين الذي هو الملاذ والمصدر لكل ما يتعلق بالتسامح. التعايش والإخاء. إلا أن المجتمع يفتقد تلك القيمة السماوية ومع سبق الإصرار فلا يوجد مجال لا يمتلئ بالمشاحنات بدءاً من المجال السياسي وصولاً إلي المكاتب الضيقة التي لا تضم أكثر من شخصين أو ثلاثة حيث تجد الخلاف هو القاسم المشترك بين الجميع. وخلال الاستعداد لرحلة العمر المبارة تعود الناس ان يطلبوا التسامح والعفو من بعضهم البعض خاصة الذين يتوجهون لهده الرحلة المباركة طالبين من الله التسامح والقبول. "عقيدتي" تفتح من خلال هذا التحقيق ملف التسامح في محاولة لاستعادة تلك القيمة المفقودة. التسامح حتي مع المنافقين حادث الإفك يقول الدكتور نصر فريد واصل مفتي مصر الأسبق وعضو هيئة كبار العلماء: لقد كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يستخدم التسامح ويستعمله حتي مع المنافقين الذين يعرف أنهم كذلك. ومع أنهم يمثلون أعداء الداخل فلقد عفا رسول الله صلي الله عليه وسلم عن ابن أبي مسلول مراراً. وزاره لما مرض. وصلي عليه لما مات. ونزل علي قبره. وألبسه قميصه. وهذا الرجل هو الذي آذي رسول الله صلي الله عليه وسلم في عرضه يوم حادثة الإفك» فيقول عمر للرسول صلي الله عليه وسلم: أتصلي عليه وهو الذي فعل وفعل؟ فيقول النبي صلي الله عليه وسلم: "يا عمر. إني خيرت فاخترت قد قيل لي: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم". ولو أعلم أني لو زدت علي السبعين غفر له لزدت. وتذكر لنا كتب السيرة أنه لما جاء رجل ورفع السيف علي النبي صلي الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني يا محمد؟ قال: الله ثم سقط السيف من يده. ثم أخذه النبي صلي الله عليه وسلم وقال: "من يمنعك مني؟"" ثم أخذه إلي أصحابه وأخبرهم الخبر. فتعهد للنبي صلي الله عليه وسلم ألا يحاربه. ولا يكون مع قوم يحاربونه. فالتسامح أحرجه وأخذ منه كل قلبه وفي فتح مكة حين قال صلي الله عليه وسلم لقريش "ما تظنون أني فاعل بكم" قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء" وكذلك فعله صلي الله عليه وسلم مع ذلك الرجل الذي كان يضع القمامة في طريقه صلي الله عليه وسلم وحينما خرج في يوم من الأيام ولم يجد القمامة في طريقه سأل عن الرجل فأخبر أنه مريض فذهب يعوده. رسالة العفو والتسامح يشير الدكتور محمد المختار المهدي عضو هيئة كبار العلماء ورئيس الجمعية الشرعية لقد جاء رسول الله صلي الله عليه وسلم حاملاً هذه الرسالة العظيمة المتضمنة لكل معاني القيم الإنسانية والحضارية. وفي طليعة هذه القيم التسامح. وقد جسد هذا الخلق في مفاهيم عملية فحولها من مجرد قيمة إلي مفهوم عملي لازم حياته في جميع مراحلها. قبل البعثة وبعدها. في حالات الضعف كما في حالات القوة. لقد دعا رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي إشاعة جو التسامح والسلام بين المسلمين وبينهم وبين غيرهم من الأمم. واعتبر ذلك من مكارم الأخلاق. فكان في تعامله مع المسلمين متسامحاً حتي قال الله - تعالي - فيه: "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم" "التوبة: 128". وكان مع غير المسلمين ينطلق من هذا المبدأ العظيم ليكرس قاعدة التواصل والتعارف بين الناس. ولتكون العلاقة الطيبة الأساس الذي تبني عليه علاقات ومصالح الأمم والشعوب. وحتي مع أعدائه الذين ناصبوه العداء كان متسامحاً إلي حد العفو عن أسراهم واللطف بهم والإحسان إليهم فها هو أثناء عودته من الطائف. وبعد أن أدموه وأغروا به سفهاءهم وغلمانهم. وبعد أن طردوه من قريتهم. واساءوا معاملته. يأتيه ملك الجبال يقول: مر يا محمد. فيقول رسول الله: لعل يخرج من أصلابهم من يعبده وينصر هذا الدين. لقد كان ملك الجبال ينتظر منه إشارة ليطبق عليهم الأخشبين ويغرقهم في ظلمات الأرض فلا ينجو منهم أحد. ولكن الرحمة في قلبه وخلق التسامح الذي تربي عليه دفعه إلي الاعتذار من ملك الجبال. وقال قولته الشهيرة التي تنم عن مسئولية عظيمة وخلق فاضل. العفو عند المقدرة. يؤكد الدكتور محمد الدسوقي أستاذ الشريعة بجامعة القاهرة: لقد حض النبي علي التسامح وحببه إلي المسلمين بقوله وفعله قال صلي الله عليه وسلم "من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو اخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة وأمر بألا يجبر أحد من النصاري أو اليهود علي ترك دينه فقد كتب صلي الله عليه وسلم إلي عامل في اليمن من كان علي يهودية أو نصرانية فلا يفتتن عنه واظهر النبي صلي الله عليه وسلم وخلفاؤه وقواد المسلمين سماحة فيما عقدوا من صلح مع البلاد التي فتحوها رغم أنه من شأن المنتصر أن يستبد ويملي شروطه بدافع الغيظ والانتقام والغرور بالقوة ولكن المسلمين كانوا في معاهداتهم مع المغلوبين كراماً فاقروهم علي عقائدهم وشعائرهم الدينية وأوصوا برعايتهم والمحافظة علي أموالهم. ولقد كان النبي رحيماً حتي بالحيوانات وتروي كتب السيرة عشرات القصص عن رحمته بالحيوانات ومنها ما رواه زيد بن أرقم حيث قال: كنت مع النبي صلي الله عليه وسلم في بعض سكك المدينة. فمررنا بخباء لاعرابي فإذا ظبية - غزالة - مشدودة إلي الخباء. فقالت: يا رسول الله إن هذا الأعرابي اصطادني ولي خشفان في البرية - يعني ولد الغزال - ولي خشفان وقد تعقد اللبن في أخلافي فلا هو يذبحني فاستريح. ولا يدعني فأرجع إلي خشفي في البرية. فقال لها رسول الله صلي الله عليه وسلم: إن تركتك أترجعين؟!! قالت: نعم وإلا عذبني الله عذاب العشار.. فأطلقها رسول الله صلي الله عليه وسلم فلم تلبث أن جاءت تملظ فشدها رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي الخباء فجاء الأعرابي ومعه قربة. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أتبيعنيها؟ قال: هي لك يا رسول الله فأطلقها صلي الله عليه وسلم يقول زيد بن أرقم: فأنا والله رأيتها تسيح في البرية وتقول لا إله إلا الله. محمد رسول الله. يقول أنس رضي الله عنه: خدمت رسول الله صلي الله عليه وسلم عشر سنين ما دريت شيئاً قط وافقه ولا شيئاً قط خالفه رضاء من الله تعالي بما كان. وإن كان بعض أزواجه لتقول لو فعلت كذا وكذا ما لك فعلت كذا كذا. يقول دعوه فإنه لا يكون إلا ما أراد الله. وما رأيت رسول الله صلي الله عليه وسلم انتقم لنفسه من شيء قط إلا أن تنتهك لله حرمة. فإذا انتهكت لله تعالي حرمة كان أشد الناس غضباً لله عز وجل. وما عرض عليه أمران قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن لله فيه سخط. فإن كان لله فيه سخط كان أبعد الناس منه. الحلم الجميل من جانبه يشير الدكتور الشحات الجندي الأمين العام السابق للمجلس الأعلي للشئون الإسلامية: لقد كان المصطفي صلي الله عليه وسلم حليماً مع أصحابه وأعدائه. فلم يكن يغضب إلا حين يكون هناك تساهل في إقامة حدود الله أو إساءة للدين الإسلامي إما لنفسه فلا وهناك كثير من المواقف التاريخية التي تؤكد أن المصطفي صلي الله عليه وسلم كان حليماً في معاملاته مع الناس حتي ولو كانوا أعداءه.. ومن الوقائع الدالة علي حلمه صلي الله عليه وسلم : أن رسول الله صلي الله عليه وسلم توجه إلي مكة في السنة السادسة من الهجرة لأداء العمرة فأحرم هو ومن معه من المسلمين وبعد أن وصل إلي ذي الحليفة أرسل عيناً له من خزاعة لينقل إليه أخبار قريش وحالهم فرجع له وأخبره أن قريشاً قررت صده عن المسجد الحرام. فغير رسول الله طريقته في السير حتي إذا نزل بالحديبية جاء بديل بن ورقاء إلي رسول الله وأخبره بأن كعباً ابن لؤي سيقاتلونه ويمنعونه عن دخول مكة وبعد ذلك توالت الرسل من قريش إلي رسول الله دارت بينهم وبين رسول الله صلي الله عليه وسلم مناقشات حول رجوعه هو ومن معه عن مكة هذا العام وكان آخر هذه الرسل سهيل بن عمرو الذي بعثته قريش لعقد صلح من رسول الله بشرط أن يرجع بمن معه من المسلمين عن مكة هذا العام. فجاء سهيل إلي رسول الله وتكلم معه ثم اتفقا علي عقد الصلح فدعا الرسول صلي الله عليه وسلم عليا بن أبي طالب ليكتب كتاب الصلح مع قريش في الحديبية. وكان الممثل لقريش في عقد الصلح هو سهيل بن عمرو. فلما أملي الرسول صلي الله عليه وسلم علي الكتاب وأملي عليه "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال سهيل: "أما الرحمن" فو الله لا ندري ما هو ولكن اكتب باسمك اللهم. فأمر النبي صلي الله عليه وسلم عليا بذلك. ثم أملي "هذا ما صالح عليه محمد رسول الله" فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ولكن اكتب محمداً بن عبدالله. فقال: "إني رسول الله وإن كذبتموني وامر عليا أن يكتب محمدا بن عبدالله ثم تمت كتابة الصحيفة. وموقفاً آخر يدل علي حلمه صلي الله عليه وسلم وذلك حين كان صلي الله عليه وسلم يطوف بالكعبة يوم فتح مكة وكان فضالة بن عمير بن الملوح قد فكر في قتله صلي الله عليه وسلم وهو يطوف. فلما دنا من الرسول صلي الله عليه وسلم قال له صلي الله عليه وسلم: أفضالة قاله: نعم ضالة يا رسول الله: "ماذا كنت تحدث به نفسك"؟ "قال لا شيء كنت أذكر الله. فضحك الرسول صلي الله عليه وسلم ثم قال "استغفر الله" ثم وضع يده علي صدر فضالة فسكن قلبه فكان فضالة يقول: والله ما وضع يده علي صدري حتي ما من خلق الله شيء أحب إلي منه. ويتجلي حلمه صلي الله عليه وسلم عندما يكون هذا الحلم مع ألد أعدائه وحامل لواء العداوة ضد رسول الله صلي الله عليه وسلم من أن العباس عم رسول الله خرج من عند الرسول صلي الله عليه وسلم قبل يوم الفتح يلتمس أحداً من قريش ليخبر قريشاً بأن رسول الله خرج إليهم وذلك ليخرجوا إليه فيستأمنونه. فوجد أبوسفيان وبديل فأخبرهما فقال أبوسفيان: فما الحيلة؟ فقال له: والله لئن ظفر بك الله ليضربن عنقك فاركب حتي آتي بك رسول الله صلي الله عليه وسلم فأستامنه. فدخل العباس وأبوسفيان علي رسول الله وعنده عمر بن الخطاب فقال عمر: يا رسول الله هذا أبوسفيان فدعني اضرب عنقه قال العباس: يا رسول الله إني قد أجرته فقال صلي الله عليه وسلم: اذهب به يا عباس إلي رحلك فإذا أصبحت فأتني به "فذهب فلما أصبحت غدوت به إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله. قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك! أما هذه فإن في النفس حتي الآن منها شيء. فقال له العباس: ويحك أسلم وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله قبل أن تضرب عنقك فأسلم.