ستة أيام ولياليها عشتها في استانبول العاصمة التاريخية القديمة لتركيا.. أبحث عن سر جمالها وجاذبيتها لملايين السياح الذين يستمتعون بجوها وبحرها وسوقها وآثارها العثمانية التي تخلد ذكري إمبراطورية تركت بصماتها في الشرق والغرب.. من استانبول انطلقت إلي قري ومدن كثيرة حتي وصلت »بورصة« المدينة الحالمة في أحضان الجبل العظيم.. جبل الثلج وبأنفاس متهدجة صعدنا قمة الجبل علي ارتفاع 0052 متر فوق سطح البحر حيث متعة التزلج علي الجليد وكان نصيبي سقطة كادت أن تقصم ظهري..! ومع كل عودة في المساء أجلس مع نفسي أسائلها: أو ليست آثار مصر شاهدة شامخة تنافس كل آثار العالم؟ أوليس جونا وبحارنا وكرم شعبنا مؤهلات لأن نجتذب نصف سياح العالم؟ إذن لماذا ترنحت السياحة إلي مصر.. وهل ثمة خطأ في إدارة ملف السياحة التي تعد ركيزة أساسية في الدخل القومي لمصر؟ في هذه الرحلة وقعت علي صيد ثمين واتتني الفرصة لمقابلته بعد عناء.. إنه خبير السياحة التركية الدولي البروفيسور إدريس دونر. دكتور إدريس كيف تفوقتم في التنشيط السياحي لبلادكم وحققتم طفرة غير مسبوقة؟ أولا دعني أرحب بك في بلدك الثاني تركيا وفي العاصمة التاريخية استانبول.. وأعبر لك عن مشاعري تجاه الشعب المصري العظيم ودولتكم الكبيرة الرائدة الملهمة بحضارتها للعالم أجمع.. لقد عشت ودرست بمصر وحصلت علي شهادة من الأزهر وأخري من الحقوق في الدراسات العليا وتعلم أبنائي في طب عين شمس.. وعقب تخرجي عملت مذيعا بالقسم التركي بالإذاعة المصرية .. يعني تقدر تقول علي َّ أنا مصري مثلك ولي الشرف وأذكر لك أن الشعب التركي رئيسا وحكومة يحبون مصر ويقدرون دورها وتاريخها وحضارتها ولعلك لمست حالة التقارب والزواج من التركيات في مصر.. ويضحك من قلبه وطبعا حّسنا النسل وظهر الجمال التركي في الأحفاد المصريين. أعود إلي سؤالك .. ياأخي السياحة عندنا صناعة ثقيلة جدا تحتاج إلي خبرات وتجهيزات ووضع أسس بعد دراسات جادة فمثلا مناهجنا الدراسية بها فصول تهتم بتربية النشء علي حُسن استقبال الضيوف وحُسن التعامل معهم وتجنب الغش في المعاملات.. وعموما نحن نظرنا إلي السياحة علي أنها قطاع خدمات ومنتج وسلعة نقدمها للسائح بجودة فائقة في استقباله وخدمته وهذه بسم الله الرحمن الرحيم في السياحة أعني أول وأهم استفتاح وقد نجحنا وحققنا طفرة هائلة ويعد حُسن الاستقبال أهم وأكبر مؤثر في السياحة إلي تركيا.. وقد تفوقنا علي الغرب لأننا لدينا ثقافة إسلامية وحضارة شرقية وهي تعتمد في أصولها علي حُسن معاملة الضيف وإكرامه.. إننا بصراحة لانعتبر الشخص ماكينة في الحياة يأكل ويشرب وينام.. بل هو إنسان يشعر بفرح وحزن ومن هنا احترمنا مشاعره واستقبلناه ضيفا عزيزا قبل أن يكون سائحا. مدارس متخصصة ويقول البروفيسور إدريس دونر: قلت لك إن السياحة صناعة ثقيلة وقد وفرنا مدارس للسياحة والفندقة في سائر محافظات تركيا تأخذ بأحدث الأساليب والأسس الفندقية العالمية من حيث المناهج والمدربين وقبل هذا كله المنهج التربوي الذي يعلم الطالب احترام الإنسان ومن ثم الضيف أو السائح.. فمثلا: لو تعرض ضيف لموقف غير عادي وسيئ .. سرقت نقوده أو أصيب في حادث مرور.. سيجد المرشد السياحي الذي يرافقه أو أحد شهود الحادث يغيثه وينقذه في الفندق إذا شعر بصدقك يتنازل عن جزء من الأجر بحسب ظروف السائح.. أستطيع أن أقول لك.. لا استغلال متعمد أبدا.. لأن السائح ضيفنا ونحن نحبه أضف إلي ماسبق: الابتسامة الصافية في وجه ضيوفنا.. دعني أوجز لك سر نجاحنا: الأمانة والصدق وحُسن الاستقبال والمعاملة وامتناع الغش والاستغلال. هل رأيت الأهرامات في مصر؟ صدقني بالله لو أنا مصري ومسئول عن السياحة والأهرام أضمنها تدر شهدا علي مصر. كيف يادكتور إدريس.. هل تملك عصا سحرية؟ لا.. لست ساحرا ولكني أعرف قيمة آثاركم الحضارية وأهميتها وشغف العالم بها.. هل رأيت المسلة المصرية في استانبول وبجوارها المسلة البيزنطية.. أدعوك لزيارتهما.. بالفعل ذهبت إلي المسلة ورأيت مئات السياح يتأملونها ويلتقطون الصور التذكارية بينما المسلة البيزنطية حولها أفراد يعدون علي أصابع اليدين. كما أنني عاتب علي بعض المنتسبين للسياحة في بلدكم فمثلا أصحاب الجِمال والخيل عند الأهرام جماعة نزلة السمان تعرفهم؟ ويضحك من قلبه.. إنهم يقدمون أسوأ صورة عن السياحة المصرية.. يتفقون علي السائح علي نصف ساعة مقابل 001 جنيه ثم يذهب به بعيدا في الصحراء ويتوهه حتي يرجع بعد ساعة ويطلب 005 جنيه.. يشعر السائح بالإهانة والغيظ والاستغلال فإذا عاد أخذ انطباعا سيئا عن مصر والمصريين ووزعه علي أصدقائه وأهله. ناهيك عن شطارة التجار وأصحاب محلات الأنتيكة قمة الاستغلال ومحاولة فرض قانون (إحنا اللي خرمنا التعريفة) مش ده عندكم واللا أنا مبالغ؟ سكت في حسرة وخزي أمام الرجل.. وسألته محاولا الخروج من الموقف: هل للدولة دور مباشر في صناعة السياحة؟ الدولة لايمكن أن تقوم بعمل كل شيء وحدها.. لا تستطيع ولا تقدر فقط تقوم بعمليات محدودة. النظافة شعارنا فمثلا تقوم الدولة بتنظيف الشواطئ وإعادة تشغيل البلاچات بشكل حضاري يعجب السياح.. كما تضع خطة كاملة تقدم ثقافة شاملة في الأوساط التي لها علاقة بالسياحة تؤكد علي أهمية الالتزام بالعقود وتخفيض السعر كلما أتيحت الفرصة وحُسن المعاملة والجودة في تقديم الخدمة يزين كل ذلك ابتسامة صافية تعجب السائحين. وقبل كل هذا ستري نظافة شاملة حول الآثار وقبلها وبعدها وفي سائر أنحاء تركيا، وهذا يطمئن السائح علي صحته فضلا عن إعجابه بالمنظر.. عندكم في مصر سور مجري العيون وعندنا سور القسطنطينية أدعوك لزيارته لتري مستوي النظافة حوله برغم أن طوله 31 كيلو مترا.. وقد رأيت سور مجري العيون التاريخي »مزبلة« يندي لها الجبين.. بصراحة رأيت إهمالا جسيما لآثاركم وعدم الاهتمام بالنظافة وفي تصرفات بعض الناس الذين يعيشون بجوار الآثار المصرية يحتاجون إلي توعية جادة حتي تحسن تصرفاتهم الشخصية..!! الدراما أنقذتنا وكيف لعبت الدراما التركية التي اكتسحت الشرق دورا مهما في نجاح سياحتكم؟ نعم هي مفتاحنا الذهبي قدمنا ثقافتنا وآثارنا وبحارنا وفنوننا من خلالها بأداء مبهر وإخراج متميز المعتمد علي التصوير الخارجي بالأماكن الجميلة وأظن أن إعجاب المشاهدين بالمناظر والفنانين هو المفتاح الذهبي للرواج السياحي في تركيا. قلت والطيران تذكرته رخيصة؟ قال بالعكس تذكرة الطيران عندنا أغلي لكن الالتزام بالمواعيد وتقديم خدمة متميزة جدا مع ابتسامة ساحرة جذبت السياح. نصائح ذهبية البروفيسور إدريس دونر: بم تنصح المسئولين عن السياحة في مصر.. وماذا تقول لهم؟ أولا: أقول لهم بصدق وبحق مصر عليَّ التي علمتني وعشت علي أرضها 03 سنة مع أولادي.. اتقوا الله في مصر واعرفوا قدرها وحجمها وقيمتها وعظمة حضارتها.. تفاخروا بأمجادكم مرة واعملوا لمصر ألف مرة.. فالقدماء المصريون عملوا لزمانهم مجدا وحضارة وبكل أسف المصريون الآن متكاسلون يجيدون فن التغني بأمجاد القدماء ولايعملون مثلهم أليس هذا عبثا وتضييعا لمكانة مصر؟ ثانيا: كفاية فهلوة.. السائح يقبل منك النكتة الجميلة ويشاركك الابتسامة وهو يعرف والعالم كله يعرف خفة دم المصريين.. يحب النكتة ويكره الاستغفال والاستغلال. ثالثا: لابد من إعادة النظر في مستوي المدارس الفندقية عندكم وتطويرها لتخرج لكم أمهر العاملين بشرط التأكيد علي النظافة والجودة والأمانة وحُسن الاستقبال للسائح ومعاملته كضيف شخصي له. رابعا: القري السياحية المصرية بدأت عملاقة في روعتها ولكن إهمال الصيانة والنظافة ضيعها وأخطر من ذلك سوء الخدمة والفهلوة.. وبعضها مهدد بالتوقف. خامسا: لابد من توفر الأمن والأمان للسائح ومصر الآن في حالة استثنائية ستمر علي خير لكن المظاهرات والشغب يعطي انطباعا للسائح بعدم الأمان فيفضل السفر لبلد آخر أتمني علي كل من يحب مصر أن يدرك مدي أهمية الأمن والأمان في دعم اقتصاد مصر خاصة في هذه المرحلة الحرجة.. وسادسا وأخيرا: لابد أن يتغير الشعب المصري إلي الأفضل.. يترك عاداته السيئة وينمي عاداته الطيبة فهو شعب في الأصل كريم ومضياف وابن نكتة ويحب الناس فأين كل هذه المقومات في دعم السياحة إلي مصر؟ التجربة التركية كيف تري الوضع السياسي في مصر؟ بصراحة شديدة.. »الشعب أذكي من الدولة« .. بل وأقوي وأسرع منها.. الشعب المصري يخطو ألف خطوة في اليوم والدولة تخطو 05 خطوة فقط فهل هذا معقول؟! أعرف أن المصريين مشغوفون بالتجربة التركية خاصة في السنوات العشر الأخيرة.. ومعهم حق فتركيا بعد 3002 تغيرت حياتها فاتسمت بالمرونة والانسياب والإنجاز.. وعندما وصل التيار الإسلامي إلي سدة الحكم ظن القوميون تلاميذ أتاتورك والشيوعيون أن تركيا ستنهار وأن الإسلاميين سيمزقون البلد ويفرقون بين شعبها وتصنيف المواطنين هذا شيوعي وهذا مسلم متدين.. هذا قومي وهذا إسلامي.. وتوقعوا خسفا وتضييقا علي العلمانيين وخيب أردوغان ظنهم فوسع دائرة التسامح الاجتماعي واحتضنوا كل فصيل وتيار داخل تركيا وأتاحوا لهم فرصة المشاركة في بناء تركيا مع أن القوميين كانوا يعملون ويدعون للتقاليد الغربية ويحظرون علي غيرهم أي مظاهر تخالفهم.. السيد أردوغان وحزبه كانوا أذكياء استوعبوا الجميع ووسعوا دائرة المشاركة في الحكم وأبرز صورة في ذلك وزير الخارجية أحمد داود أوغلو وهو لاينتمي لحزب التنمية والعدالة أصلا وهي وزارة سيادية في البلاد.. أؤكد لك أن هذه الروح الجديدة وهذا التسامح وتوسيع دائرة المشاركة في إدارة البلاد وتنمية تركيا كسرت سم القوميين فهم وإن لم يعلنوا إعجابهم صراحة بتجربة حزب أردوغان إلا أنهم يعترفون بالإنجازات المبهرة والطفرة الهائلة التي حققها حزب التنمية والعدالة. دعوة للمصريين ويقول البروفيسور إدريس دونر: قبل أن أنهي حديثي معك.. أدعوك وأدعو كل المصريين أن يحافظوا علي مصر وأدعو الدولة أن تعيد قراءة الواقع والمشهد واستلهام الإيجابيات من التجربة التركية التي تعرفونها.. مصر كبيرة وبناؤها علي أكتاف حزب أو فصيل واحد مستحيل.. نوصيكم بالحب والتسامح والالتفاف حول علم مصر وللرئيس الدكتور محمد مرسي الذي يحظي بحب كبير عندنا أقول له: وسع دائرة المشاركة في إدارة شئون مصر فالنجاح ملك للجميع والله يحفظ مصر ويرعاها..