لا يحتاج استدعاء الجنون في ظل الصخب اليومي الرهيب لأي جهد!... كل الأحداث الجارية تدفعنا للعته الكامل! .. جنون شرعي لا شك في تشخيصه!... هو المتنفس المثالي للمتشرذمين عقليا.. رهائن العبث والارتباك في المشهد السياسي الحالي! ولا شك أن المصريين التعساء قد فقدوا صوابهم بتراكم الظلم والذل والفساد، ويدفعهم إلي الجنون المؤكد، إعادة إنتاج هذه الكوارث بأشكال سياسية تتأسلم أو تتعسكر حسب الظروف! وتبقي معضلة محاكمة النظام السابق ورجله المحنط مبارك وعياله، أكثر مسببات الجنون »الرسمي«.. فالحديث الراهن عن رد الأموال المنهوبة مقابل التصالح هو الهزل الرديء بعينه! وعلي حد قول المحامي والناشط السياسي أمير سالم، فإن اللص التافه الذي يسرق سيارة، لايعقد صفقة مع الشرطة لإطلاق سراحه مقابل إعادتها!! فلماذا نقبل الخضوع لمنطق التصالح والتفريط في حقوقنا لكبار اللصوص مقابل حصولنا علي جزء منها واستمتاعهم الآمن بالباقي المنهوب في ظل المقايضة البلهاء بالعفو الخائب عنهم والتصالح!! لقد أفضي الظلم والفساد إلي نوع من الجنون العلاجي ! فعندما تغلق أبواب الإصلاح، ويتفاقم الشعور بالضيق والعجز، ينفجر الجنون لتفريغ شحنة الغضب الأسيان. ففي كنف مبارك (الله لايبارك فيه ولا يجعل له من معني اسمه أي نصيب) نشأ وترعرع أصحاب الطموحات المشبوهة.. وتحت رعاية نظامه الأمني الوحشي اكتسب المظاليم شحنة غل ورغبة متوقعة في إذلال الآخرين، ولو بالأفعال التسلطية التافهة، لتعويض الانكسار الذي نتج عن تحطيمهم معنويا وجسديا!. أما الطبقة العشوائية المتخمة بالمال المفاجئ إثر التسيب الاقتصادي، فهي الطبقة التي تحاول الانغماس في الحياة الرغدة والتمسح في الناس الراقية (سلوكا مصاحبا للثراء).. لكنهم يخفقون في ذلك المسعي الصعب، لأنهم لايتمتعون بأي مرجعية فكرية وثقافية وحضارية تؤهلهم لذلك... ولقد أشرت سابقا إلي إعلان فاشل حاول نبذ الطبقة العشوائية الثرية بأسلوب كوميدي محبب أداه بنجاح الفنان إدوارد.. وقلت إن نقد سلوكيات هذه الطبقة يجب أن يتم بشكل مدروس، لا يسخر منهم في إعلان تجاري وإلا سيفقدهم كمستهلكين.. والحقيقة أن من الواجبات الحتمية علي الإعلام الحالي أن تتضمن رسالته (إذا كان عنده رسالة وأقصد الإعلام الرسمي بالثلث) أقول يجب أن تتضمن رسالته خطابا حضاريا يعيد صياغة السلوك المصري المرفوض ويرتقي بالمتخلفين أخلاقياً!. وبالعودة إلي دعوتي للجنون المريح في مستهل المقال، أستعير مشهدا يؤجج هذا الجنون من كمونه المؤقت.. أما أبطال المشهد فهم بالطبع من يقول عنهم المثل الشعبي العبقري: »فلوس مع تيوس« وإليكم المشهد الفتاك: موكب من سيارات حديثة يفترش طريقا رئيسيا..تقوده سيارة مكشوفة ومعبأة بشباب من الشبيحة (لايمكن يكونوا نزلوا ميدان التحرير في الثورة) تتبعهم سيارة »متزوقة« لأصحاب الزفة العروسين.. الموكب يتباطأ ويعوق سيولة المرور!! والسيارة القائدة تنبعث منها موسيقي مزعجة وضجيج مميت!! والشباب التافه يخرج منها فجأة ليرقص حولها وحول العروسين فيتوقف الطريق تماما تحت رحمة الزفة التي تعطل مصالح أطباء يريدون إنقاذ مرضي أو إسعاف قادم من بعيد أو طلبة ذاهبين إلي درس أو.. أو.. أو!! و.. كان نفسي ساعتها في مسدس صوت.. قلت أمنيتي الغبية لصديقتي فقالت: هم يطلقون أعيرة حقيقية تحية للعروسين من سلاح أصلي!! إذن.. كان الرجل الغاضب في السيارة المجاورة لي محقا حين صرخ فيهم بعد انفراج الطريق: »جتكوا جنازة قبل الجوازة«!! يارب أدركنا برحمتك من التيه والتخلف.. فبعد ضياع قيم التآلف والتآخي والتقدير الفطري للصواب والخطأ، دخلنا في غيبوبة حضارية.. لم تفلح الثورة المجهضة في علاج العيوب المكتسبة للمصريين.. لم يعد أمام المتألمين من »الحال المايل« سوي الانفجار الجنوني لتفريغ طاقة الغيظ، وبالمناسبة.. المجنون في مصر بالذات، كائن جذاب ومثير، فهذا الشعب الفضولي الذي يعوق وصول الإسعاف لموقع حادث مروري لتكدس الناس وتجمعهم للفرجة البلهاء علي المصيبة، هو شعب »عايز جنازة ويشبع فيها لطم«!! وأستثني بالطبع الثوار الشرفاء وال 02مليونا الذين شاركوا في الثورة، فأصحاب العزة الفضوليون هؤلاء عينة أخري لم تر الثورة، بل سمعت عنها فقط.. وأما المجانين، فيجدون في مصر ثلاثة أنماط من البشر: الأول يقدر ظروفهم ويتعاطف معهم، والثاني يخاف منهم فيخيفهم ويؤذيهم.. والثالث الأكثر شيوعا هو النمط الذي يعتبرهم »بركة« وملهمين من عند الله، ألا يسميهم بعض المؤمنين بالخير الكامن فيهم »المبروك«؟! وبالمناسبة، قدمت السينما المصرية نموذجا جميلا عنهم في فيلم يحمل اسم »مبروك وبلبل« إخراج ساندرا نشأت منذ عدة سنوات وأنا لست ضد بركة المجانين لأنها مؤكدة في براءتهم وطهرهم ووضوحهم وصراحتهم، وتعليقاتهم التي غالبا ما تثير الدهشة للعبقرية والألمعية الشاردة منهم، وأذكر أن أحد الأطباء النفسيين قال لي ذات يوم إن العلاقة بين العبقرية والجنون أصيلة.. إذن أيها السادة والسيدات: »إعملوا نفسكم مجانين«.. وفجروا الأقوال المكبوتة لعلكم ترحمون من أيام عجاف تضيع فيها الحرية والثورة. من أقوال الناس علي الفيسبوك: »يجب تضمين الدستور القادم مادة تمنع توريث الوظائف العامة«!