الموت هو الحقيقة الوحيدة في هذه الحياة. لا يشكك فيها ولا ينكرها أحد، مهما كان دينه أو جنسه أو لونه.. مهما قصرت أو امتدت بنا سنوات العمر فالمصير واحد والنهاية المحتومة واحدة: الموت سيد الحقائق منذ الأزل. وفي الموت أيضاً حياة، تترجمها عادات وتقاليد وطقوس جنائزية، يمارسها المصريون منذ زمن أجدادنا الفراعنة وسجلوها في نقوش علي جدران المعابد، مثل جلسات النحيب والعديد، وإطعام الفقراء في المقابر، ونثر الزهور علي أجساد الراحلين، وغيرها من التفاصيل التي توارثها المصري منذ آلاف السنين جيلاً بعد جيل. تلك هي عبقرية المصريين، الذين يتمسكون بعاداتهم وحكاياتهم القديمة، ويمارسونها حتي يومنا هذا، بنفس الطريقة والتفاصيل الدقيقة ذاتها. ويتضمن هذا الملف الذي أعدته »آخرساعة» عن الموت، أسئلة عِديدة ترتبط بعالم الأموات وطقوس التكفين، وأخري ذات صلة ب»الروح» وماهيتها، وإجابات شافية من علماء الأمة، كما نلقي الضوء علي أشكال المقابر لدي الأثرياء التي كما وصفها البعض »ترد الروح»، وكذلك جماليات إحدي الجبانات في صعيد مصر التي توارثت فن الرسم علي القبور، وغيرها من الحكايات المنثورة هنا وهناك عن عالم ينبض بالحياة! شقت السيارة طريقها ببطء في الطريق الترابي الملتوي في مقابر البساتين، فتحت السيدة الخمسينية عينيها ببطء، ملأت صدرها من هواء المكان، ارتسمت علي وجهها ما يشبه الابتسامة، تمالكت نفسها من أن تنهار باكية، توقفت السيارة أمام مقبرة تظللها أشجار »الجهنمية» الكثيفة وتتناثر بين أوراقها زهور صفراء وبنفسجية تضفي بهجة مزيفة علي المكان، اندفعت السيدة خارج السيارة، كالمعتاد وجدت في انتظارها حشدا مثل كل مرة في نفس موعد الزيارة في كل يوم جمعة. لم تنتبه السيدة إلي همس شابتين: "زي كل يوم جمعة حلويات، لماذا لا تأتي لنا بلحم أو حتي فراخ". بفتور تناول منها الحشد حلوي "الماكرون الفاخرة" المتراصة بنظام داخل عبوات تحمل اسم أفخر محل لبيع الحلوي، لم يعنهم الأمر كثيرا وهم يتناولون حصتهم ويتركونها تدخل إلي المقبرة التي تحمل اسم ابنها الشاب، سلمت السيدة علي ابنها وعلي جيرانه من الأموات، قبل أن تستعد لقضاء يوم الجمعة من أوله حتي بعد غياب الشمس، حدثته عن كل ما مر بها منذ زيارتها الأخيرة له، ثم بدأت في تلاوة القرآن. قبل أن ينسحب المجتمعون فكر رجل من بينهم أن يصارح السيدة بأنها تنفق أموالها علي الحلوي التي لا تغني ولا تسمن من جوع، وتبرع بأنه سيطلب منها نقودا أو طعاما مفيدا. هنا تدخل "التربي" الذي يظل ملازما للسيدة أثناء وجودها داخل المدفن ليطمئن عليها خاصة أنها تطلب من السائق الذي يرافقها أن يغادر ويعود إليها في المساء، بكلمات حاسمة: لا أحد يطالبها بشيء هي تأتي بالحلوي التي كان يحب ابنها تناولها في حياته، يكفي ما هي فيه، فحادثة موته كادت أن تفقدها عقلها بعد أن شاهدته وهو يهوي من أعلي سطح الفيلا التي يسكنون فيها قبل موعد زواجه بأيام قليلة. فكر "التربي" في طلب السيدة بأن يبحث لها عن مكان تقيم فيه من صباح الجمعة حتي صباح السبت لتقضي أكبر وقت معه في الزيارة التي يتهيأ فيها الأموات للقاء الأحياء، تنهد الرجل في حيرة متسائلا: لماذا لا يتركونهم يستمتعون برقدتهم الهادئة؟ ولم يكن ذلك الرجل الطيب يعلم أن للزيارة طقوسا وآدابا محكمة وأن "القرافة" التي تكاد تخلو اليوم إلا من بعض المتصدقين بالخبز الشهير "الشريك" أو "القرص" التي بالكاد تخبز بالزيت الممزوج بالسمن النباتي بدلا من السمن البلدي الفاخر، والقليل من الفاكهة، التي استبدلها البعض بجنيهات قليلة توزع علي الباحثين عن الصدقات من أقارب المتوفين، وصفها في يوم من الأيام البعيدة الرحالة الأندلسي الشهير "ابن جبير" بأنها إحدي عجائب الدنيا لما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء، وأهل البيت، والصحابة والتابعين، والعلماء، والزهاد، والأولياء ذوي الكرامات الشهيرة والأنباء الغريبة، وقال عنها في كتابه الشهير الذي يحمل عنوان "رحلة ابن جبير": "فهي بأسرها روضات بديعة الإتقان عجيبة البنيان، وقد وكل بها قومه يسكنون فيها ويحفظونها، ومنظرها منظر عجيب، والجرايات متصلة لقوامها كل شهر". وبين جنبات القرافات في مصر كانت تغرس البساتين وتشيد فيها القصور الفاخرة للأمراء والأثرياء من أجل زيارة الأموات وإيصال الرحمات لهم، فلزيارة الأموات أو المنتقلين إلي الجهة الأخري من العالم الغيبي، طقوس وقواعد كانت تمارس في الماضي بدقة شديدة ولم يتبق منها الآن إلا النزر اليسير، كلها طقوس تراكمت فوق بعضها منذ آلاف السنين كانت في الماضي جادة وحقيقية وبطيئة تقتطع أياما من عمر الأحياء ينذرونها لزيارة الأحباب، وأصبحت الآن سريعة وخاطفة وبالكاد تتم، وقد احتفظت لنا الكثير من كتب التراث القديمة بالتفاصيل الدقيقة عن فضل زيارة الأموات وأيضا آداب الزيارة ومن أشهرها "مرشد الزوار إلي قبور الأبرار" للإمام العارف موفق الدين بن عثمان، "وتحفة الأحباب وبغية الطلاب في الخطط والمزارات" للسخاوي، ومن أهمها كتاب "الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة" لشمس الدين محمد بن الزيات. حتي أن العلماء والمؤلفين لهذه الكتب وغيرها أجمعوا علي عشرين خطوة يجب أن يتبعها زائر المقابر، لابد له أن يلتزم بآدابها حتي تصح الزيارة ويتواصل مع أحبابه من الراقدين ويحصل الزائر علي الثواب ويحصل الراقد علي القرب والوصل مع أهل الدنيا وينتفع بالدعاء والسلام وقراءة القرآن، وتعد النية الخالصة بقصد الزيارة لوجه الله وحده أولي الخطوات التي تتبع في آداب الزيارة، فينوي الزائر إصلاح فساد قلبه ونفع الميت بما يتلوه عنده من القرآن، والدعاء له، ولا يكون قصده من الزياره التباهي من أجل أن يتحدث الناس عن بره أو بما يقوم بتوزيعه علي الفقراء أو التفاخر ببناء المقبره الفاخرة، وتأتي الخطوة الثانية لتحدد اليوم المفضل للزيارة وهو يوم الجمعة، وتحفظ لنا المرويات قصة عن رجل من آل "عاصم الجحدري" قال: رأيت عاصما في منامي بعد موته بسنتين فقلت: أليس قد مت؟ قال: بلي. قلت:فأين أنت؟ قال: أنا والله في روضة من رياض الجنة، أنا ونفر من أصحابي، نجتمع كل ليلة جمعة وصبحتها إلي بكر بن عبد الله المزني فنتلاقي أخباركم، قلت: أجسامكم أم أرواحكم؟ فقال: هيهات، بليت الأجسام، وإنما نتلاقي بالأرواح، فقلت: هل تعلمون بزيارتنا؟ قال: نعم عشية الجمعة ويومها، وليلة السبت إلي طلوع الشمس، لفضل يوم الجمعة. وفي اختيار الأيام المفضلة في الزيارة يستحب يوم الأربعاء خاصة لزيارة قبور أولياء الله الصالحين وتعتمد تلك الأفضلية علي حديث للرسول صلي الله عليه وسلم: "إن الله خلق النور يوم الأربعاء" فزيارة القبور نور، والدعاء نور. وتأتي الخطوة الثالثة لتحذر من اجتناب المشي بين القبور والجلوس عليها، مع ملاحظة أن هذا التحذير يجوز في المقابر التي يتم فيها الدفن باللحد أي يدفن الشخص ويوضع فوقه حجر يدل علي وجوده وهو أمر لا ينطبق علي المقابر في مصر التي تحيط القبور فيها مبان أو شواهد وتفصلها طرق للسائرين، وقد روي أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال: "لأن يجلس أحدكم علي جمرة فتحترق ثيابه حتي تخلص إلي جلده خير له من أن يجلس علي قبر"، وجاءت الخطوة الرابعة لتنصح بزيارة قبور الأنبياء والصحابة. فإذا قصدت الزيارة فالخطوة الخامسة تنصح بأن تقف في اتجاه وجه الميت فإنك في زيارته كأنك تخاطبه حيا ثم في الخطوة السادسة، تسلم علي الميت كما تسلم علي من تزوره من الأحياء، وقال أبوهريرة ، رضي الله عنه: "إذا مر الرجل بقبر رجل يعرفه، فسلم عليه، رد عليه السلام، وإذا مر بقبر لم يعرفه فسلم عليه، رد عليه السلام، وإن لم يصل إلي القبر يسلم من بعيد. وحذرت الخطوة السابعة من مس القبر أو تقبيله أو المسح عليه للتبرك. وتأتي الخطوة الثامنة، بقراءة القرآن علي القبر، ثم تتبعها في الخطوة التاسعة بالدعاء للميت، لأن الدعاء له هو الهدية التي يقدمها الزائر فلقد روي عن النبي أنه قال: "ما الميت في قبره إلا كالغريق المتغوث ينتظر دعوة تلحقه أو صدقة من ابنه أو أخيه أو صديق له"، ثم تأتي الصلاة علي النبي في الخطوة العاشرة، ولا يجب علي الزائر أن ينسي الدعاء لنفسه في الخطوة الحادية عشرة ومن الأدعية المستحبة: "اللهم أني أسالك بما سألك نبينا محمد، وأعوذ بك مما استعاذ منه نبيك محمد وأسألك العفو والعافية". أما الخطوات من الثالثة عشرة وحتي العشرين فتذكر علي هيئة وصايا لابد أن يلتزم بها الأحياء من الإكثار من زيارة الأقارب وأن يلتزم بالصبر ويترك الجزع، والنياحة والصراخ. لابد من عدم الصلاة في المقبرة، فقد روي عن سعيد الخدري، أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام". وفي المسيحية جاء في كتاب "عزاء المؤمنين" للقديس حبيب جرجس في أصول زيارة الأموات أنها ضرورة لإكرام الأحباء بعد الموت، فهي تعلم الإنسان أن الدنيا زائلة وأن كل آمال الإنسان انتهت داخل القبر، وأن كل ما يحتاجه الإنسان في النهاية سبعة أشبار يدفن فيها. وفي المسيحية طقوس وآداب واجبة للزيارة فقد ذكر الكتاب المقدس في السفر الجامع "الذهاب لبيت النوح خير من الذهاب لبيت الوليمة" وجاء فيه أيضا "قلوب الحكماء في بيت النوح وقلب الجهلاء في بيت الفرح" ومن طقوس الزيارة أنها تفضل أن تتم يوم السبت وفي أيام الأعياد وخاصة في اليوم الثاني من أيام عيد القيامة الذي يسمي "راحة الموتي" ، ويتم إشعال الشموع وإطلاق البخور علي القبور، وإنارة الشموع هنا لأجل التمني بأن يجعل الله مكان الميت نورا. وفي اليهودية تمر عملية الزيارة بالكثير من الشروط، فبعد عملية الدفن يقام سبعة أيام من الحداد، ويلتزم بها الأقارب من الدرجة الأولي والتي يطلق عليها "الشيفعاه" أي السبعة وبعد ينتقل الحداد إلي مرحلة "هاشلوشيم" الأيام الثلاثين، أي الشهر الأول بعد الوفاة.