واقع كابوسي يعيشه أهالي الدويقة، وهم يشاهدون تشقق الجبال والصخور من حولهم، منتظرين الموت في أي لحظة، ليلحقوا بأصدقائهم وجيرانهم الذين لقوا مصرعهم في "6 سبتمبر 2008" عندما انهارت كتل صخرية ضخمة علي عشرات المنازل والعشش بعزبة بخيت بمنطقة الجورة في الدويقة بمنشية ناصر. ووفق التقارير العلمية هناك 16 منطقة مهددة بالانهيار في الفترة المقبلة علي رأسها صخرة "الشهبة بتبة فرعون" التي يصل وزنها إلي 50 طنا، وشمال وجنوب هضبة الحرفيين التي تم إزالة 70٪ منها ويتبقي 30٪ ومنطقة الدمراني والخزان التي تقع علي طريق الأوتوستراد، ومحجر فوزي عليوة، ومناطق الزرايب الملاصقة لجبل المقطم، ومنطقة المعدسة.. مئات الأسر الفقيرة يستيقظون علي الفزع، حين يكتشفون أن الصخور تتأهب للانهيار علي رؤوسهم، فظروف المعيشة دفعتهم لصعود سفح الجبال للبناء عليه، دون اهتمام من الدولة بتحذيرهم أو منحهم سكنا يليق بآدميتهم، ولأن تساقط الصخور من حواف الهضاب ظاهرة طبيعية معروفة علي مستوي العالم وتسمي (تراجع المنحدرات) فتصبح الكارثة وقتها قضاء وقدرا، أو إرجاعها إلي أن الزحف العمراني العشوائي وسوء التخطيط السبب وراء مصرع عشرات من الضحايا. حدوث الكارثة منذ ثلاثة أعوام وتوقع تكرارها لم يدفع محافظة القاهرة لاتخاذ إجراءات صارمة لحل أزمة "الدويقة" التي تحولت إلي مقبرة جماعية لشهداء الانهيارات الصخرية، فالأهالي فقدوا الأمل بعد الوعود الكثيرة بنقلهم إلي شقق جديدة، وتعودوا علي زيارات الحي غير المجدية، واكتفوا بالحياة البدائية في عشش يطلقون عليها مجازا منازل، حيث تسكن معهم (العقارب والثعابين والفئران) وسط الظلام الدامس الذي يعم عليهم كل ليل نظرا لانقطاع الكهرباء باستمرار، أما المياه فتباع لهم بالجركن، والصرف عشوائي علي الصخور المتناثرة. بنصف ابتسامة استقبلنا الحاج عبدالله الذي يتخطي العقد السادس من عمره، ويقطن إحدي العشش المتواضعة منذ 27 عاما، يخبرنا بأنه لا ينتظر سوي الموت (الشئ الوحيد الذي يتأكد من حدوثه) فيترقب كل يوم سقوط الصخور علي سطح بيته، ويقول في حسرة: رفضتنا الحياة وكأنه كتب علينا أن نعيش دون أن نعرف إلي اي العصور ننتمي؟! نعيش وسط الجبال، نأكل الفول والعدس، نشتري مياه الشرب في "جراكن"، نجهل القراءة والكتابة، ننام مع العقارب والفئران، يصرعنا برد الشتاء كل ليلة، نسرق الكهرباء ونلقي الصرف علي سفح الجبل، تجمعنا غرفة واحدة علي وشك الانهيار قبل الهضاب، ولا يجبرنا علي ذلك سوي الفقر والبطالة. يضحك فأظنه يبكي ويواصل: "في بلدنا ماحدش بيسأل في حد" فبعد كارثة 2008 كان من المفترض أن ننتقل إلي شقق جديدة وبعد الاستعداد بنقل ما نملكه من أثاث بسيط، عدنا مخيبين الآمال. تدخل في الحديث زوجته ماجدة محمد - التي تعمل في البيوت لتساعده في المصاريف خاصة أن لديها خمسة أبناء من زوج آخر - لتعبر عن قلقها من الكتل الصخرية التي سقطت منذ ستة شهور دون أن تشعر الدولة بالكارثة التي ستحل بهم، مشيرة إلي أن هناك شرخا كبيرا يقسم الجبل الأصفر إلي نصفين، الأمر الذي أدي إلي ذعر سكان العشش من الموت في أي وقت. وتشكو من تحول الدويقة إلي وكر لمدمني المخدرات والبلطجية مما يجعلهم يخشون علي بناتهم من الخروج حتي لا تتعرض إحداهن إلي التحرش والاغتصاب، بالإضافة إلي أكوام القمامة التي تحاصرهم من كل جانب، فالأهالي يقومون بإلقاء مخلفاتهم بجانب الجبل، ولا ترغب سوي في غرفة بمكان محترم خال من الموت! تصحبنا سناء رجب إلي داخل مجموعة من العشش المتجاورة الآيلة للسقوط نتيجة لغرقها في الصرف الصحي الذي ذوب جدران غرف النوم، فنجدها تعد أقراص طعمية للغداء علي موقد صغير ويتجمع حولها أطفالها الستة في انتظار طعامهم المعتاد، وتقول: نحن معرضون للإصابة بالأمراض الخطيرة بسبب التلوث الذي نعيش فيه، فهناك مرحاض واحد بدائي لأكثر من سبع أسر مختلفة، وحين يأتي الليل تجد المكان كالقبر لا يوجد به عمود إنارة يحمينا من الحرامية والمتسولين.. وتعبر عن رغبتها في الالتحاق بجيرانها الذين لقوا مصرعهم في 2008 حتي تجمعهم مأساة واحدة كما جمعهم قهر واحد، وتضيف: احنا كل يوم قبل ما بنام بننطق الشهادة استعدادا للموت في أي لحظة، فلم يلتفت إلينا أحد كي ينقذنا من الخطر الذي يقف علي أبوابنا، والوعود بالشقق صارت نكتة تضحكنا جميعاً. ويتهم إدريس عبد الله النائب السابق حيدر البغدادي بأنه وراء بقائهم حتي الآن بعدما عزم الحي علي نقلهم إلي شقق جديدة، ويؤكد: أصحاب الأراضي دفعوا رشوة له كي لا نترك العشش التي تعود عليهم بالمال لأنهم حصلوا علي هذه الأراضي بوضع اليد، كما أن أحد اللواءات قال إننا أصحاب ورش ومصانع ولا نستحق المساعدة، ويفقد الثقة في الثورة بأن تفعل شيئا لهم طول ما فيه "محسوبية". وتصف فاطمة نقلها للصرف الصحي علي أكتافها إلي سفح الجبل بالذل، فهي لا تستطيع دفع عشرين جنيها للبرميل الذي ينزح الصرف كل شهر، وتستطرد: الجبل "بينشع" مياه علي حوائط البيت، علشان الحكاية تكمل، وهو لو مامتناش من انهيار صخرة الجبل، هنموت من انهيار البيت علي دماغنا. أثناء صعودنا الجبل رددت السيدات من شرفات البيوت "هتخدونا من هنا إمتي؟" طالبين النظر إليهم بعين الرحمة، فأطفالهم يلعبون بالصخور ومعرضون للسقوط من أعلي الجبل، كما أن كل البيوت مشققة ويحاولون إصلاحها لكن بدون فائدة، وقال إسلام (26 سنة): تحدث انهيارات للصخور شبه يومية، ولا يملكون سوي الصبر علي حالهم الذي لن يتغير. يفسر د. أحمد عاطف دردير، رئيس هيئة المساحة الجيولوجية الأسبق، سرعة تساقط الصخور من أعلي هضبة المقطم نتيجة لتسرب مياه الصرف الصحي من خلال الصخور الجيرية المهشمة إلي صخور الطفلة الانتفاشية تحتها مما أدي إلي حدوث الشروخ والتصدعات التي أحدثت خلل هندسي في منظومة استقرار هذه الصخور الجيرية علي حافة الهضبة وسفحه، وفي النهاية لم ينتبه أحد لتساقط الكتل الحجرية الجيرية المنفصلة من حافة الهضبة لتنزلق وتتدحرج وتهوي علي السفح وعلي الأراضي التي هجمت عليها عشوائيات ذلك الزمان. ويشير دردير إلي التقرير الذي أعد بعد كارثة الدويقة 2008 والذي حذر من المناطق التي تتعرض للخطورة وهم: المناطق السكنية القريبة من حافة الهضبة العليا الجنوبية، والمناطق أسفل جروف الهضبة الوسطي والمطلة علي عزبة الزبالين والدير، ومباني الحرفيين، ومنطقة الدويقة ومنشأة ناصر. ويعرض عدة اقتراحات اجتمع عليها خبراء جيولوجيون ومهندسون وجيوتقنيون للحد من هذه الكارثة وهي: حظر الاقتراب أو البناء في مناطق الخطورة التي تم تحديدها أو الإقامة عليها، التحكم والسيطرة علي عمليات الصرف الصحي والإسراف العشوائي في استخدام المياه في المباني بالهضبة العليا والوسطي، تعيين مراقبين مهنيين من ذوي الخبرة والتدريب العالي علي استقراء الظواهر الجيومورفولوجية للمرور علي مناطق الخطر ولو كل شهر مرة واحدة وغيرها حتي عمق الهضبة لمشاهدة أي آثار واضحة علي الأراضي من شقوق أو صدوع أو غيرها.