علي بعد عشرة كيلومترات من المسجد الحرام بمنطقة »أم الجود» وصلت إلي مصنع كسوة الكعبة، الذي تم تغيير اسمه العام الماضي بأمر من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود إلي »مجمع الملك عبدالعزيز لكسوة الكعبة المشرفة» نسبة إلي والده الملك عبدالعزيز باني نهضة السعودية الحديثة، والذي أنشأه منذ 42 عاماً.. تجولت بين أقسامه »بتصريح خاص»، وشاركت بأنامل أصابعي حياكة كسوته الحريرية الناعمة بخيوط الفضة المطلية بالذهب الخالص، وعلي قماشها الأسود طُبعت الآيات القرآنية والزخارف الإسلامية في نسيج رائع الجمال يعكس التبجيل والتعظيم لأول بيت وضع للناس.. الكعبة المشرفة. لم تنل بقعة في الدنيا ما نالته الكعبة المشرفة من المحبة والتقديس، فإليها تحن القلوب، ولا يخلو الطواف حولها آناء الليل وأطراف النهار من مسلمي العالم. والتشريف بكسوتها تنافس عليه الحكام والملوك والأمراء من قديم الأزل.. هكذا يحكي سماحة الدكتور عبدالرحمن السديس (إمام الحرمين الشريفين)، فكسوة الكعبة من أهم مظاهر الاهتمام والتشريف والتبجيل للبيت الحرام، وإن تاريخ كسوة الكعبة جزء من تاريخ الكعبة نفسها، فقد ذكر أن إسماعيل (عليه السلام) هو أول من كسا الكعبة، وقيل بل عدنان من ولده، وأغلب الروايات أن تُبع الحميري ملك اليمن أول من كساها كاملة في الجاهلية، ثم الكثيرون غيره. في زمن الرسول (ﷺ) وكانت كسوة المشركين باقية علي الكعبة المشرفة حتي فتحت مكة.. وقد كساها النبي (صلي الله عليه وسلم) بالثياب اليمانية، وكساها الخلفاء الراشدون من بعده أبوبكر وعمر (رضي الله عنهما) بالقباطي، وأما عثمان (رضي الله عنه) فكان أول من قرر للكعبة كسوتين: القباطي، والبرود اليمانية، وأما علي (كرم الله وجهه) فلم يؤثر عنه أنه كسا الكعبة، لانشغاله بإخماد الفتن. وتوالت بعد ذلك كسوة الكعبة من عهد الدولة الأموية، فالعباسية، إلي زمن المماليك والعثمانيين، فقد استمر المماليك في إرسال الكسوة من مصر، وكانوا يرون أن هذا شرف يجب ألا ينازعهم فيه أحد، وكان أول من كساها من ملوك مصر بعد العباسيين الظاهر بيبرس، وأوقف الملك الصالح إسماعيل بن قلاوون وقفاً خاصاً لكسوة الكعبة الخارجية مرة كل سنة، واستمرت مصر في نيل شرف كسوة الكعبة بعد سقوط دولة المماليك وخضوعها للدولة العثمانية، فقد اهتم السلطان »سليم الأول» بتصنيع كسوة الكعبة وزركشتها. في العهد السعودي واهتمام السعودية بصناعة الكسوة يرجع إلي عام 1345ه حين منعت مصر »آنذاك» إرسال الكسوة المعتادة، ولم تشعر الحكومة السعودية بذلك إلا في غرة شهر ذي الحجة من نفس العام، وعندئذ أمر الملك عبدالعزيز آل سعود (رحمه الله) بعمل كسوة وكانت من الخوخ الأسود الفاخر، ولم يأت يوم النحر إلا والكعبة عليها الكسوة. وفي مستهل شهر محرم 1346ه أمر الملك عبدالعزيز بإنشاء دار لصناعة الكسوة، وكانت أول مؤسسة بالحجاز. صنعت في مصر وظلت دار الكسوة تقوم بصنعها حتي عام 1358ه حيث أغلقت الدار وعادت مصر بعد الاتفاق مع الحكومة السعودية إلي صنع كسوة الكعبة وإرسالها، ثم انقطعت مرة أخري سنة 1381ه بسبب اختلاف وجهات النظر السياسية، فقامت السعودية بإعادة فتح وتشغيل مبني تابع لوزارة المالية بحي »جرول»، وأسندت إليه إدارة المصنع، ولم يكن لديها وقت لبناء مصنع حديث، وقد ظل هذا المصنع يقوم بصنع الكسوة الشريفة حتي 1397ه، وفي هذا العام نقل العمل إلي المصنع الجديد بمنطقة »أم الجود»، وافتتحه ولي العهد آنذاك الأمير فهد بن عبدالعزيز، ومازالت الكسوة الشريفة تصنع به إلي اليوم. وذكر لي الدكتور محمد بن عبدالله باجودة (مدير عام دار كسوة الكعبة الشريفة، بأنه في 7 من شهر شعبان العام الماضي 1438ه صدرت موافقة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود بتغيير مسمي مصنع الكسوة إلي »مجمع الملك عبدالعزيز لكسوة الكعبة المشرفة»، اعترافاً بالجميل لصاحب فكرة إنشاء هذا المعلم المعني بحياكة الكسوة المشرفة في مهبط الوحي، كما ذكر لي الدكتور يوسف بن علي الفقي (مستشار وزير الحج والعمرة) بأن أكبر اهتمام بالكسوة تم في العهد السعودي. زيارة لمجمع الكسوة قطعت المسافة ما بين مكان إقامتي في الفندق المقابل للكعبة المشرفة إلي منطقة »أم الجود» حيث يقع المصنع في حوالي نصف ساعة، رغم أن المفروض أن أصل بعد عشر دقائق لأن المسافة لا تتعدي عشرة كيلومترات، وذلك بسبب زحام الحجاج. مجمع الكسوة مترامي الأطراف، ويحيطه سور حديدي، وحوله بعض الزروع والأشجار، ويحتضن عددا كبيرا من الأقسام الفنية التي تحتلها أحدث الماكينات والآلات المتطورة التي تنتج الكسوة الشريفة، ويعمل بها حوالي 210 من العمالة الماهرة، وكلهم سعوديون. يتم استيراد أجود الأقمشة وأنعمها كحرير من إيطاليا، أما خيوط الذهب والفضة من ألمانيا، وتصل كمية الذهب في الكسوة إلي 120 كيلوجراما، ومن الفضة 100 كجم. الرحلة تبدأ بالتحلية وتبدأ رحلة إنتاج الكسوة في قسم »التحلية»، ويعني قسم التحلية بنقاء الماء، إذ تعد ضرورة ملحة وحيوية وتنعكس بدورها علي جودة الحرير وملمسه، وهنا يبدأ غسيل الحرير بمياه صافية، ثم قسم المصبغة لنزع الطبقة الشمعية العالقة بخيوط الحرير »السرسين» ثم يتم صباغة الحرير بألوان الأسود (الكسوة الخارجية)، والأخضر (الكسوة الداخلية للكعبة والخارجية للمقام النبوي الشريف)، والأحمر للكسوة الداخلية النبوية، وتستهلك الكسوة الواحدة 670 كيلوجراماً من الحرير. أنتقل بعد ذلك بواسطة مرافق إلي قسم »المختبر» حرصاً علي تقوية ودعم ثوب الكعبة لمقاومتها لعوامل التعرية والظروف المناخية. ثم أسير بعد ذلك دقائق إلي قسم النسيج الآلي. قسم النسيج الآلي هذا القسم هو الأهم والأبرز في نسج الكسوة، وبداخله أحدث الماكينات العالمية المتطورة، بنظام »الجاكارد» الذي يحتوي علي العبارات والآيات القرآنية المنسوجة، والمتر الواحد يستهلك حوالي عشرة آلاف خيط، بالضبط (9986) إضافة إلي البطانات القطنية للكسوة، كل ذلك يدار »آليا» . يليه قسم الطباعة، حيث تبدأ عملية وضع الرسم الأول من طباعة الآيات القرآنية والزخارف الإسلامية علي حزام الكعبة (الحرير السادة)، كما يتم تجهيز المناسج، والنسج الواحد عبارة عن ضلعين متقابلين من الخشب المتين يشد عليهما قماش أبيض خام »للبطانة»، ثم يثبت عليه القماش الحرير الأسود السادة، ويطبع عليه حزام الكسوة وستارة باب الكعبة ويتولي العاملون طباعة الآيات القرآنية بواسطة استخدام »السلك سكرين». آخر ساعة.. تشارك التصنيع وكانت »آخر ساعة» هناك داخل مصنع الكسوة، وتحديدا في مهمة حياكة التطريز، عندما شاركت (عم حسن) عمله، وألتقط منه »الإبرة»، ورحت أقلده بعمل الغرز اللازمة من »الحشو» و»القبقبة» باستخدام الأسلاك الفضية المطلية بالذهب الخالص، لتصنيع آية قرآنية بديعة.. وقسم الحزام الذي أتواجد فيه ينتج 16 قطعة لحزام الكعبة مكتوباً عليها آيات قرآنية، و6 قطع ما تحت الحزام بمختلف الأحجام، و4 قطع صمدية توضع في أركان الكعبة، و12 قنديلاً ما تحت الحزام، و5 قناديل فوق ركن الحجر الأسود، إضافة إلي الستارة الخارجية لباب الكعبة.. أما قسم المذهبات فيقوم بتطريز ميزاب الكعبة، كينار الحجر الأسود، كينار الركن اليماني، والحلية المركبة علي الركن اليماني بطول 6 أمتار، وعرض 40سم، وبعض القناديل. مرحلة تجميع الثوب والمرحلة النهائية بقسم تجميع الثوب، حيث يتولي تجميع كل القطع من طاقات قماش الحرير بكل جنب من الجوانب الأربعة للكعبة وتوصيلها ببعض، وتثبيت القطع المذهبة من حزام الكعبة والقناديل علي الثوب الأسود المتوج بالتسبيحات، ليتكامل شكل الكسوة الخارجي، في شكل بديع يجذب إليه الناظرين..