لا تصدق من يقول لك إن المصريين خرجوا للإدلاء بأصواتهم في أول انتخابات برلمانية بعد الثورة خوفاً من دفع الغرامة المالية التي قدرت ب 005 جنيه، فهم يريدون ضياع حق الشهداء الذين أعادوا لنا الحرية والكرامة؛ ففي عهد المخلوع لم يشعر الشعب المصري بقيمة صوته، فالنتيجة محسومة للحزب الوطني مسبقاً بالغش والخداع وشراء الأصوات والبلطجة التي أعدها النظام الحاكم لإرهاب من يعبر عن صوته بل من يرغب في منافسة الحزب الحاكم. لذلك خرج المصريون بجميع الفئات والأعمار- شبابا ورجالا وشيوخا وبنات وسيدات وعواجيز– ليؤكدوا أنهم أصحاب القرار فيمن يمثلهم بغض النظر عن انتمائهم السياسي، فقدم الشعب المصري صورة مشرفة للعالم الذي وقف منبهرا بالوحدة التي جمعت طوائفه وجعلته متلاحماً؛ فوجدنا رجال الجيش والشرطة علي أهبة الاستعداد لنجاح تلك التجربة، قاموا بتأمين اللجان من البلطجية، ضربوا لنا أروع مثل في الإنسانية؛ شاهدنا كيف يستطيع رجل الأمن أن يمد يد المساعدة للمواطن المريض والكهل بكل ود وحب، رأينا رجال الجيش يوفرون المقاعد لكبار السن، ويحملون من لا يستطيع إلي مقر الاقتراع، لتمكينهم من الإدلاء بأصواتهم في تجربة ربما لم يشاهدوها طيلة حياتهم. الكل حريص علي صوته وحقه في الديمقراطية، فرغم البرد القارس وهطول المطر بالإسكندرية، لم يتراجع الناخبون عن إصرارهم في التصويت بالانتخابات، ولم تهتز صفوفهم، نصبوا فوق رءوسهم غطاء من البلاستيك ليحميهم من فوضي المطر، هذا المشهد جعل كل من دخل في بيات شتوي، ينفض من علي جسده أصواف الكسل واللامبالاة، ليصطحبوا بأيديهم مظلات هارعين إلي صناديق الاقتراع. "كبار السن والمعاقين" أكثر الفئات خروجا للانتخابات، فالكثير منهم لم يخرج من قبل للتعبير عن رأيه، همشهم النظام السابق لعجز جسدهم، فقاموا بإقصائهم عن الحرية، وأخرسوا ألسنتهم في اختيار من يمثلهم بالبرلمان، لكي لا يصدعوا رأس النظام بمطالبهم، لذلك حرص "كبار السن والمعاقون" علي الإدلاء بأصواتهم في أول فرصة جعلتهم يشعرون بحقوقهم في المجتمع. مشاهد هزت قلوبنا..ها هو معاق بساق واحدة يقف في طابور الاقتراع الطويل أمام اللجنة الانتخابية، لم يمل من الانتظار، وعندما حان دوره في التصويت، نسي أنه عاجز وأسرع مبتسماً إلي لجنته راجيا من الله الصواب في الاختيار، ورجل مسن في اللجنة المجاورة تجاوز عمره السبعين عاما يسانده شابان ويرشدانه علي طريقة الانتخاب، وأخري عجوز لا تستطيع صعود الدرج ينزل إليها القاضي المسئول من الطابق الثاني حاملاً أوراق الاقتراع إليها، وعجوز أخري تخلق مشهداً من الوحدة الوطنية، فتساندها امرأة مسلمة وأخري مسيحية. الإصرار، والحرص الشديد، والشعور بمسئولية الصوت، وقيمته، وتأثيره في مستقبل بلدنا، هو الباعث الحقيقي والقوي وراء خروج هؤلاء، مواقف عظيمة حدثت أمام لجان الاقتراع في جميع أنحاء البلاد، لتؤكد لنا أن الشعب هو البطل الحقيقي في ميدان أحداث الانتخابات، أناس بسطاء وفقراء يتوافدون لا يريدون سوي تحقيق هدفهم المنشود، فبمجرد سؤالهم عن سبب خروجهم رغم المرض والانتظار الطويل، تجد إجابتهم دون ترتيب: "حاسس إن صوتي هيفرق"، "عشان خاطر بلدي نزلت الانتخابات"، "عايز أعمل حاجة إيجابية"، "صوتي أمانة". الشعور بالمسئولية جعل أحد القضاة - مسئول عن إحدي لجان الاقتراع - لم يذهب إلي بيته بعد انتهاء اليوم الأول، ونام ليلته داخل سيارته الخاصة، أمام اللجنة حرصاً منه علي صناديق الاقتراع .. كل هذه المشاهد علمتنا أن المحنة تولد الارتباط، فلم تشهد الانتخابات سوي الرقي والانتظام بين طوائف الشعب المصري. وأمهات الشهداء تمتعن بثمرة التضحية، ذهبن للإدلاء بأصواتهن في الانتخابات، ثم عدن إلي ميدان التحرير يرثين أولادهن الذين ضحوا بأرواحهم فداء لتلك اللحظات التاريخية، نحن مدينون لهم، فهم من جعلوا الشعب المقهور يشارك في حياته العامة، ويختار من يمثله في مجلس الشعب ليكون شريكاً في رسم مستقبله وتحقيق أحلامه.