ميدان التحرير أضحي ساحة مليئة بالغرائب والأسرار، فمنذ اندلاع ثورة يناير وحتي تجدد الاشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن قبل نحو أسبوعين تحولت البنايات المطلة علي الكعكة الحجرية والعمارات المتواجدة بالشوارع القريبة من »التحرير« إلي كتل خرسانية خاوية، وبينما تدب الحياة بالصخب وهتافات المتظاهرين في الميدان يسود الصمت وتختفي مظاهر الحياة في العمارات، بعد هروب ساكنيها إلي أماكن وأحياء أخري توفر لهم الأمان والهدوء وراحة البال. هذه الأجواء دفعت بعض أصحاب الوحدات السكنية بهذه العمارات إلي استثمارها في أي شيء يدر عليهم المال، ولعل الفكرة الأبرز كانت تأجير هذه »الشقق« للمحطات التليفزيونية المحلية والوكالات العالمية، فاعتلت كاميرات التليفزيون أسطح البنايات وشرفاتها لاقتناص المشاهد الدامية والصراع الدائر بين المتظاهرين وقوات الأمن. ولم يعد غريبا أن تري عددا من الإعلاميين يتفاوضون مع صاحب شقة لتأجيرها لبضع ساعات أو حتي لمجرد التقاط صورة فوتوغرافية في مشهد رأسي علي ميدان التحرير. سبوبة ميدان التحرير. هو العنوان الأمثل الذي يمكن أن نطلقه علي هذه الظاهرة، وبين استغلال بعض أصحاب الشقق للأوضاع ومخاوف بعض السكان من التعرض للأذي جراء الأحداث العنيفة تبقي هذه البنايات ذات التاريخ البعيد شاهدة علي الميدان وما يدور في أجوائه وشوارعه الجانبية من تفاصيل مثيرة.. جولة سريعة لتفقد العمارات في »التحرير« كانت كافية لاكتشاف العالم السري والقوانين الخاصة التي باتت تتحكم في هذه العمارات.. وعلي مداخل هذه البنايات يبدو المشهد الدراماتيكي واحدا.. بقايا الحصي والطوب تفترش الشارع وتختلط بها شظايا لزجاج متهشم ورائحة عطرة لشرفاء مروا من هنا وهناك وملأت أصواتهم أصداء المكان. كغيرنا من عشرات الإعلاميين الذين كانوا يبحثون عن فرصة لدخول أي من عمارات التحرير، كانت الفكرة تبدو سهلة لكن المحاولة تكشف صعوبة الأمر وتجعله في بعض الأحيان مستحيلا، لكن فجأة تتكشف الوسائل السحرية للدخول حينما تضع يدك في جيبك وتخرج ورقة مالية بعشرة أو عشرين جنيها فتفتح لك الأبواب المغلقة، بينما لا يسمح لك صاحب الشقة بالمكوث أكثر من دقائق معدودة لتطل علي المشهد من الشرفة وتتابع سريعا ما يجري في الميدان. »مفيش صحفيين ولا تصوير.. شوفو لكم عمارة تانية«.. عبارة مباغتة أطلقتها سيدة مسنة وحارسة عقار حينما حاولنا دخول إحدي العمارات المطلة علي الميدان، لكنها سرعان ما تراجعت عن كلامها هذا حينما تعاملنا معها بمبدأ »الإكرامية« وفعلت العشرة جنيهات مع هذه السيدة فعل السحر.. ودخلنا المكان! صعدنا إلي العمارة في الطابق الأول سكان لا يزالون مقميين في شققهم ولكن مع تأمين أنفسهم جيدا واضعين لوحاً خشبياً بعرض باب الشقة وأمامهم عيادة يبدو عليها القدم من قلة استخدامها فقد تم إغلاقها منذ أسبوع ولم يأت الطبيب إليها مع العلم بتوافد المرضي يوميا علي أما الطابق الثاني فهو شركة استثمارات عقارية تم غلقها منذ أحداث نوفمبر أيضا الطابق الثالث يضم ثلاث شقق واحدة منها مكتب استشارات قانونية ولكن يأتي إليها حارس المكتب يوميا لتفقد الأوضاع وشقتان لم يتركهما أصحابهما لأنها شقة أحد أفراد الجيش برتبة لواء. وصلنا مع حارسة العقار للدور الرابع ووجدناها شقة شبه خالية لا يقطنها أحد مع وجود بعض من الأثاث وبدأ الإعلاميون أتراك الجنسية من وكالة الأناضول بالتجهيز للتصوير وفوجئوا بتوقيف من السيدة »انتوا بتعملوا إيه احنا لسنا اتفقنا« وبالفعل قاموا بالاتفاق علي 500جنيه وبدأوا بالتصوير وزامن هذا الحدث وفود إعلاميين من وكالة أخري يرغبون في التصوير لم أذكر أن هذه الشقة متميزة فيوجد بها وجهتان وجهة علي التحرير والأخري علي محمد محمود. بالطبع سعر وجهة محمد محمود أغلي فقاموا بدفع 700جنيه مصري وجاء دوري في الدفع وتوقعت أن يكون أسعار الصحفيين مختلفة عن أسعار المصورين وبالفعل مدت يدها مجددا قائلة »أنا مبتكلمش إلا ب150جنيه« سكت قليلا لأفكر في المبلغ راودتني فكرة بأني أقوم بمحاولة لتقليل المبلغ ولكني وجدتها فكرة غير مجدية فقلت لها »مش معايا غير 30جنيه ينفع.. فأجابت وهي غاضبة »إنتي عايزة إيه بالضبط« فقلت لها سأقوم بدردشة معك قالت »ال30جنيه دول أقولك بيهم 3 أسئلة بس«. حقا لم أكن أتوقع كل هذا.. أجابتني »قائلة دا موسم ولازم نسترزق كلنا عرفنا أن التصوير داخل الشقة يتكلف من 250 إلي 350جنيهاً والروف 1000جنيه وبعض الناس قاموا بترك شققهم مؤقتا إلي أن تنتهي الأحداث والمتضررون منهم بسبب كبر سنهم لاحتياجهم للعلاج قاموا بترك الشقق منذ بداية الأحداث ولم يبق في العمارات سوي من ليس لهم مسكن آخر. أما عن المكاتب والعيادات فهي مغلقة بأمر أصحابها لحين إشعار آخر والسؤال هنا عمن يستغلون شقق المالكين من أجل تحقيق مكاسب لهم فهل عمليات تسويق الشقق تتم بمعرفة أصحاب الشقق أم هي عمليات غير معلوم هويتها لا أحد يعلم. وعند سؤال حراس العقارات عن تضررهم من الغازات أو الثوار قالوا »خلاص اتعودنا بس ياريت يكون بفايدة«. وأكدوا عدم صعود أي من الثوار أو البلطجية كما يزعم البعض إلي العمارات. العيادة ولكن مع الأسف يجدونها مغلقة.