لم يتمالك البطل نفسه وفاضت عيناه من الدمع وبكي كما لم يبك من قبل، ففي يوم الخميس الثامن والعشرين من ديسمبر 2017، حقق أسطورة كرة القدم الإفريقية جورج ويا واحداً من أهم الانتصارات في حياته، ولكنه فعلها في بلده هذه المرة، بعيداً عن ملاعب أوروبا التي شهدت له بموهبة فذة قد لا تتكرر إلا كل 100 عام. ومع بلوغه الحادي والخمسين من العمر انتخب رئيساً لليبيريا بنسبة 61.5٪ مقابل 38.5٪ للرئيس المنتهية ولايته جوزيف بواكاي. أمام حشد كان علي وشك الجنون من شدة الفرح، جاء للاحتفاء ب"الرجل الذي سيجعل لنا صوتاً"، كما يردد دوماً أنصاره، لم يتمالك ويا نفسه ولم يستطع السيطرة علي مشاعره، فأطلق لدموعه العنان. شعبيته في ليبريا التي كانت ومازالت طاغية منذ تألقه بقمصان أكبر الفرق الأوروبية، تبدو شيئاً استثنائياً لا سيما بين الفقراء في العاصمة مونروفيا وفي كل المناطق المهمشة، حيث يقيم السكان معزولين في مخيمات أشبه ب"الجيتو"، ويفتقدون أبسط الخدمات سواء المياه أو الكهرباء أو شبكات صرف صحي، وبسعادة بالغة تقول امرأة عجوز لوكالة فرانس برس: »نحن في بلد تملك فيه النخبة كل شيء بينما باقي الشعب لا يملك شيئا.. واليوم جاءنا رئيس سيعيد السلطة للشعب». انتخابات 2017 تمثل تحولاً كبيراً في تاريخ ليبيريا منذ إنشاء ذلك البلد عام 1822، فالفائز بها هو واحد من أطفال الجيتو المعدمين.. وُلد في بلدة كلارا المطلة علي البحر، وربته جدته في كوخ متهالك بعد وفاة والديه وهو في سن صغيرة.. عمل فنيا متخصصاً في إصلاح الهواتف الأرضية، ولكن الكرة التي لم تفارق حضنه في فراشه، والتصقت بقدميه في شوارع كلارا الطينية، غيرت مجري حياته. بدأ حياته الكروية حارساً للمرمي في أحد الأندية المغمورة خارج العاصمة مونروفيا، قبل أن ينتقل لفريق أفريكا سبورت العاجي، ومنه إلي تونير ياوندي الكاميروني كصانع ألعاب يرتدي الرقم 10، وفي عام 1988 حينما كان ابن 22 ربيعا شاهده الفرنسي أرسين فينجر مدرب أرسنال الإنجليزي حالياً، وكان فينجر آنذاك مديراً فنيا لموناكو الفرنسي، ولم يتردد في ضمه لفريق الإمارة الفرنسية الثرية، ومن هناك أتقن ويا اللغة الفرنسية وانطلق في رحلة تألق ولمعان وبطولات بقمصان باريس سان جيرمان في فرنسا ومن بعده إيه سي ميلان في إيطاليا، ثم مانشستر سيتي وتشيلسي في إنجلترا. وكانت المحطة الأبرز في حياته حصوله علي 3 جوائز في عام واحد بتتويجه بلقب أفضل لاعب إفريقي وأفضل لاعب في أوروبا وجائزة الكرة الذهبية كأفضل لاعب في العالم عام 1995، وهو الإفريقي الوحيد حتي يومنا هذا الذي نال هذا الشرف. الحرب الأهلية علي مدي 14 عاماً تألق خلالها ويا في ملاعب القارة العجوز، كانت الحرب الأهلية، التي اندلعت عام 1989، تمزق ليبيريا، ولم تتوقف سوي عام 2003، بعدما حصدت أرواح 250 ألف شخص، وكان من الملاحظ أنه طوال سنوات الحرب، لم يعلق ويا علي أحداثها بكلمة واحدة، ولم يكن يشغله في تلك الأثناء سوي صنع تاريخه الكروي في ملاعب القارة العجوز، والانخراط في العمل الإنساني من خلال التبرع بكل ما يمكنه التبرع به من مال لضحايا الحرب. ولكن حينما وجه ويا نداءً من العاصمة الفرنسية باريس للأمم المتحدة عام 1995، لإنقاذ بلده وإيقاف الحرب الأهلية، قام متمردون بإحراق منزله انتقاماً كما خطفوا اثنين من أبناء عمومته. المحامي والحقوقي الليبيري حسن بيليتي المقرب من ويا، يقول لصحيفة لوموند الفرنسية، إنه ومنذ عهد الرئيس الأسبق تشارلز تايلور، الذي كان سابقاً قائداً لميليشيات متمردة، أقسم ويا أنه لن يدخل ليبيريا سوي رئيس للبلاد، ويحكي بيليتي أنه في الولاياتالمتحدةالأمريكية وتحديداً في ولاية ميامي حيث يعيش ويا مع أسرته، جاء عدد من أصدقاء وأقارب ويا ليقنعوه بالترشح في انتخابات عام 2005، وكانت الورقة الرابحة لنجم لكرة القدم آنذاك هي غيابه عن ليبيريا وبالتالي عدم تورطه مع أي طرف في الحرب الأهلية، ما يعني أنه كان مرشح الحياد. حينما عاد ويا إلي ليبيريا عام 2005، اكتشف أن الطريق في عالم السياسة أصعب وأطول مما كان يعتقد، إذ خسر انتخابات الرئاسة أمام إيلين جونسون سيرلياف، ثم خسر أمامها مرة أخري عام 2011 بعدما قرر الترشح ممثلاً للمعارضة، وفي عام 2014 بدأ يتلمس أولي خطوات النجاح في عالم السياسة بفوزه بمنصب سيناتور عن منطقة مونتسيرادو في العاصمة مونروفيا. سيرلياف التي كانت أول امرأة تحكم ليبيريا استطاعت بالكاد الحفاظ علي السلم الأهلي، ولكن ظل 64٪ من السكان تحت خط الفقر، و62٪ ممن هم ما بين الخامسة عشرة والأربعين من العمر لم يكملوا دراستهم الابتدائية، بينما 31٪ من الشعب الليبيري يعاني من سوء التغذية. وفي ظل هذه الظروف بالغة القسوة كان خطاب جورج ويا موجهاً إلي هؤلاء التعساء المحرومين، وهو ما قاده لنصر انتخابي عريض هذه المرة. غير أن كونه "ابن الشعب" لعب أيضاً دوراً كبيراً في تحقيق هذا الانتصار، حيث إن جورج منحدر من عرق "الكرو"، ولم يكن يوماً منتمياً لعرق "الكونجوس"، وهم أولئك العبيد الذين تم تحريرهم من الرق في الولاياتالمتحدةالأمريكية بمساعدة من جمعية الاستعمار الأمريكية وهي منظمة خاصة اعتقدت بأن العبيد السابقين سيحصلون علي المزيد من الحرية والمساواة في أفريقيا. وهو أصل تسمية البلاد بليبيريا المستمدة من كلمة ليبرتي والتي تعني الحرية. كما أرسل العبيد المحررون من سفن العبيد هناك بدلًا من إعادتهم إلي بلدانهم الأصلية. وفي عام 1847، أسس هؤلاء المستعمرون جمهورية ليبيريا وأقاموا حكومة علي غرار نظيرتها في الولاياتالمتحدة وسموا العاصمة مونروفيا اشتقاقاً من اسم جيمس مونرو خامس رئيس للولايات المتحدة (1817-1825) والذي كان مؤيدا بارزا للاستعمار. ومن الثابت تاريخيا أن المستعمرين المعروفين أيضًا باسم الليبيريين الأمريكيين، احتكروا القطاعات السياسية والاقتصادية في البلاد رغم أنهم لا يشكلون سوي نسبة ضئيلة من السكان. فصل عنصري موريس مانون، أستاذ العلوم السياسية، يقول لصحيفة لوموند الفرنسية:" في ليبيريا يوجد نظام أبارتهيد، إن صح التعبير، لأن العبيد المحررين من الولاياتالمتحدة أقاموا نظاماً للفصل العنصري وحكموا البلاد متفردين ودون انقطاع منذ عام 1822"، ويشير مانون إلي أن الاستثناء الوحيد هو الرئيس صامويل دويه (1980-1990) والذي حكم البلاد إثر انقلاب عسكري، ويأتي من بعده جورج ويا كاستثناء ثان لا صلة له بالنخب الحاكمة تاريخياً. ورغم ذلك فإن ويا لم يسلم من الانتقادات، إذ عاب عليه البعض أنه لم يكمل تعليمه، حتي مع حصوله علي درجة الماجستير في الإدارة عام 2011 من جامعة أمريكية خاصة، وهنا يرد حسن بيليتي " الناس هنا مقتنعون أنه واحد منهم ويعرف مشاكلهم، وأنه سيعمل دون انقطاع علي حلها". ولكن هناك انتقاد من نوع آخر، حيث يعيب آخرون علي برنامجه الانتخابي بأنه أقرب إلي إعلان نوايا حسنة، علي اعتبار أن الحلول الحقيقية لاقتلاع الفساد من جذوره تكمن في تطوير البنبية التحتية والتعليم والنظام الصحي، وهو ما لا يمت لوعوده بصلة، وقد يكون اعتماد جورج ويا، في تعويض ما ينقصه من خبرات في عالم السياسة والاقتصاد، علي صديقته جيويل هاوارد تايلور وهي مصرفية مخضرمة، وشغلت من قبل منصب سيناتور عن مقاطعة بونجو، ولكن المرأة نفسها هي زوجة سابقة لتشارلز تايلور الحاكم العسكري الأسبق للبلاد والمدان من قبل محكمة العدل الدولية بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية إثر تورطه إلي جانب المتمردين في الحرب الأهلية بدولة سيراليون المجاورة لليبيريا، وذلك في حقبة التسعينيات من القرن الماضي. مثل هذا التحالف مع جيويل تايلور إضافة لتحالفه مع السياسي برينس جونسون، الذي ذاع صيته عام 1990 بتصويره لمشهد مقتل الرئيس الراحل صامويل دويه في ميناء مونروفيا، يجعل الكثير من الشكوك تحوم حول نوايا ويا في مثول المتورطين الأساسيين في الحرب الأهلية أمام العدالة، علماً بأنه لم يسبق إدانة أي منهم أمام المحاكم الليبيرية.. في كل الأحوال فإن الناس، والكلام هنا لحسن بيليتي، ينتظرون الكثير من مستر جورج الذي سيتولي مهامه رسمياً في الثاني والعشرين من يناير الجاري.. "نعم جورج يمكنه تغيير الكثير من الأشياء".. الكل يثق في قدرته علي تغيير شكل الحياة السياسية في البلاد مثلما كان قادراً علي تغيير نتائج المباريات".. هكذا يؤكد حسن بيليتي.