جائزة نوبل في الطب ذهبت هذا العام إلي ثلاثة علماء أمريكيين جيفري هول، ومايكل روزباش، ومايكل يونج، لاكتشافهم الآليات الجزئية المسيطرة علي إيقاع الساعة البيولوجية وهو ما سيمكننا في المستقبل من تصنيع أدوية بإمكانها أن تؤدي نفس المهمة وتساهم في علاجات الكثير من الأمراض التي تأتي نتيجة لخلل في أداء الساعة البيولوجية مثل الأرق، واضطراب النوم، والاكتئاب الموسمي، وغيرها من الأمراض التي تؤرق الإنسان. أما المفاجأة التي تم اكتشافها فهي أن المخ ليس العضو الوحيد المسؤول عن تنظيم الساعة البيولوجية لكن الكلي أيضا لها الدور الأكبر في ذلك لكن أين توجد الساعة البيولوجية؟ يؤكد الدكتور عبدالهادي مصباح، أستاذ المناعة وزميل الأكاديمية الأمريكية للمناعة، أن معظم الأبحاث التي أجريت من قبل سواء علي الحشرات مثل ذبابة الفاكهة، أو الحيوانات مثل الفئران، أو حتي علي الإنسان من أجل اكتشاف أسرار الساعة البيولوجية، كانت تتم علي المخ علي اعتبار أن مركز القيادة موجود في مكان ما بغدة ما تحت المهاد "الهيبوثلاموس" ويسمي النواة فوق التصالبية S»N وهو الذي يعطي الأمر بناءً علي الإشارات التي ترد إليه من مستقبلات معينة للضوء في شبكية العين، حيث ترسل إشارتها إلي الغدة الصنوبرية من أجل التحكم في إفراز هرمون النوم الذي نعرفه باسم الميلاتونين، والذي يفرز فقط مع حلول الظلام، إلا أن المفاجأة التي أخبرتنا بها الدراسة الأخيرة التي خرجت من جامعة أوريجون الأمريكية، هي أن المخ ليس العضو الوحيد في الجسم الذي يحمل جينات هذه الدورة السركادية التي تتفاعل وتنسجم مع النوم والراحة بالليل، والعمل والاستيقاظ بالنهار، وأن الجينات المسماة PEک وكذلك TIM »lock »ycle والتي تعطي الأمر بتكوين نفس أنواع البروتينات من أجل التحكم في نظام الساعة البيولوجية، قد تم اكتشافها في خلايا أخري من الجسم مثل خلايا الكلي. أضاف: يتم إفراز بعض هذه البروتينات بالليل عندما يحل الظلام، وتنخفض نسبتها بالنهار أو عند التعرض للضوء، والعكس صحيح بالنسبة للبعض الآخر، وقد تم إثبات هذه الحقيقة في ذبابة الفاكهة، واستمر انتظام هذه الدورة السركادية مع تعاقب الليل والنهار في خلايا الكلي في ذبابة الفاكهة حتي بعد أن تم إزالة مخ الذبابة، مما يدل علي أن هذه الجينات لا تتلقي أوامرها من خلايا المخ العليا في هذه الحالة. ورغم تأثرها عند التعرض للضوء إلا أنها يمكن أن تعمل بنفس هذا النظام، حتي لو وضعت في غرفة مظلمة تماما، وبعيداً عن أي مصدر للضوء، بل وأكثر من هذا، إن هذه الساعة البيولوجية تظل تعمل بنفس الكيفية والاختلاف ما بين الليل والنهار حتي في حالة تشريح العضو وأخذه منعزلاً بعيداً عن الجسم. ويستطرد: من هنا نصل إلي حقيقة هامة وهي أن الخالق جل وعلا الذي خلق الليل والنهار، وجعل للإنسان خلال كل منهما وظيفة وأداء معيناً، وخلق أيضاً جينات الليل والنهار داخل كل خلية من خلايا جسمه، لتتناسب وتتناغم مع خلق الله في الكون، لأن الخالق في النهاية هو الواحد الأحد في جميع الحالات "وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا"، وصدق المولي إذ يقول "وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا". وبناء علي هذه النتيجة نجد أنه ليس من المستغرب أن يتأثر أداء أعضاء جسمنا الداخلية باختلال النوم، والأرق، أو في حالة النوم في ظل وجود إضاءة، أو في حالة عدم وجود الظلام الخافت الذي يعطي الإشارة لهذه الخلايا في الجسم البشري لكي تكمل دورتها "السركادية" التي فطرها الخالق عليها، فيصاب الإنسان من خلال الأرق وعدم انتظام النوم أو السهر لفترات طويلة بالليل، بحالات كثيرة من الأمراض النفسية مثل الاكتئاب الموسمي، وضعف المناعة، وكثير من الأمراض النفس جسدية العديدة، وكذلك بأعراض الشيخوخة المبكرة، حتي لو نام الإنسان فترات طويلة أثناء النهار. والساعة البيولوجية داخل جسم الإنسان مضبوطة علي 24 ساعة ويستتبع الدورة السركادية أو دورة الليل والنهار داخل أنسجة الجسم المختلفة، تغير في درجة حرارة الجسم، وفي الهرمونات المختلفة التي تؤثر علي وظائف الجسم الحيوية، لكي يكون النهار للجهد والمعاش والتعب، ويكون الليل من أجل الراحة والسكينة والنوم، فمثلا هناك دورة لهرمون الكورتيزول الذي يفرز بواسطة الغدة الجاركلورية، وهو هرمون هام للنشاط والحركة، وله تداخلات هامة في عملية التمثيل الغذائي داخل الجسم مع بقية الهرمونات الأخري، وذلك له دخل بإفراز الأنسولين، واستهلاك السكر، وتوليد الطاقة داخل الجسم، وقد تبين من خلال الأبحاث أن هذا الهرمون يصل إلي أعلي معدل له بعد صلاة الفجر ما بين الساعة السادسة والثامنة صباحاً، وينخفض هذا الهرمون أثناء الليل ليصل إلي أقل معدلاته بعد الساعة التاسعة مساءً. ويواصل مصباح: نأتي إلي هرمون آخر وهو هرمون النمو، فنجد أنه يزداد إفرازه أثناء الليل لكي يبني خلايا الجسم المختلفة، وليستفيد الإنسان بما تناول من طعام لم يستنفد من خلال الطاقة التي يبذلها الإنسان أثناء نشاطه بالنهار، وبالتالي يعوض الجسم عن الخلايا المفقودة ويجدد نموها وحيويتها، خاصة عند الأطفال الذين يحتاجون إلي هرمون النمو بشدة، لكي تنمو أجسادهم ويصلوا إلي مرحلة الشباب. ويصل هذا الهرمون إلي أقصي معدلاته في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، ولذلك نجد أن الطفل الذي يسهر الليل، ولا ينام إلا في ساعة متأخرة وهو يشاهد التليفزيون، وهو معرض لكمية لا بأس بها من الضوء، يكون نموه بمعدل أقل من الطفل الذي تعود أن ينام مبكرا ويستيقظ مبكرا، حتي لو أكل الاثنين نفس كمية الأكل ونوعه، ثم نجد أن إفراز البوتاسيوم والكالسيوم يختلف بالنهار عنه في الليل، فيزيد أثناء النهار ويقل أثناء الليل، لكي يتناسب مع عملية الإخراج التي تصاحب الأكل والشرب أثناء النهار والحركة، وهكذا تسير وظائف الجسم الحيوية في توافق وتناغم مع الزمن الذي خلقه الله، وحدد لنا الوظيفة التي نقوم بها فيه، وحين يحدث خلل في هذا التناغم، فإن اضطراباً هرمونياً يحدث داخل جسم الإنسان، ويعقبه اضطراب نفسي، وقلق واكتئاب يصيب الإنسان ولا يستطيع أن يكتشف له سبباً. ويضرب بعض الأمثلة علي الأحداث التي تطرأ علي الجسم علي مدار الأربع والعشرين ساعة تبعا لتغير الساعة البيولوجية: الساعة 1 بعد منتصف الليل: السيدات الحوامل اللاتي أتممن الحمل يدخلن في مرحلة الوضع (لاحظ أن معظم الولادات تبدأ في مثل هذا الوقت) - الخلايا التائية المساعدة Th والتي تعتبر مايسترو الجهاز المناعي، تكون في أفضل حالات عملها وكفاءتها، الساعة 2 بعد منتصف الليل: هرمون النمو يبلغ أقصي معدلاته (حالات خلل واضطراب في النمو في الأطفال الذين يسهرون أمام شاشات التليفزيون حتي الفجر)، الساعة 4 صباحاً: الأزمات الربوية تحدث في مثل هذا الوقت، الساعة 6 صباحاً: بداية نزول دم الحيض في السيدات أثناء الدورة الشهرية - هرمون الأنسولين يبلغ أقل معدلاته، وبالتالي يكون مستوي السكر في الدم في أعلي معدلاته - تبدأ تزيد سرعة دقات القلب وضغط الدم في الارتفاع - هرمونات النشاط والحركة مثل هرمون الكورتيزول تبدأ في الارتفاع - يبدأ هرمون الميلاتونين في الانخفاض. أما الساعة 7 صباحاً: فتبدأ أعراض حساسية الصدر وحمي الهشيم في الزيادة، والساعة 8 صباحاً: تزداد فرصة حدوث الأزمات القلبية والسكتة الدماغية - أعراض الروماتيزم وحدته تزداد ويصبح الألم منها محسوساً- تنخفض كفاءة الخلايا التائية المساعدة (مايسترو الجهاز المناعي) إلي أقل معدلاتها، والساعة 12 ظهراً: ويصل مستوي الهيموجلوبين في كرات الدم الحمراء إلي أعلي معدلاته ليتناسب مع النشاط البدني والجسماني والذهني أثناء النهار. ومع دقات الساعة 3 عصراً: تبلغ قوة قبضة الأصابع واليدين لأقصاها- عدد مرات التنفس، ودرجة الإحساس، وردود الفعل العصبية تصل إلي أقصي معدلاتها، والساعة 4 عصراً: قياسات درجة حرارة الجسم، وسرعة دقات القلب، وضغط الدم، تكون في أعلي معدلاتها أثناء اليوم، الساعة 6 مساء: يصل معدل إخراج البول إلي أقصاه ويتصاعد إفراز هرمون الميلاتونين (هرمون النوم)، والساعة 9 مساءً: تزداد حدة الإحساس بالألم بحيث يشعر الإنسان به أكثر من أي وقت أثناء اليوم، والساعة 11 مساءً: أعراض الحساسية تبلغ أقصي معدلاتها. وجاء رأي الدكتور باسم أيوب، أستاذ المخ والأعصاب بكلية الطب بجامعة القاهرة، متوافقا مع الدكتور عبدالهادي، حيث لخص تعريف الساعة البيولوجية بأنها عبارة عن نظام كامل في المخ يتحكم بأجزاء متصلة بأعصاب العين عند تعرضها للضوء فترة طويلة تدرك أنها في النهار ومع الظلام تشعر أنها في الليل فتضبط مواعيد النوم والاستيقاظ لدي الإنسان أي أنها المتحكمة في إدراك النهار والليل. وأشار إلي أن أكثر فئة معرضة لعدم انضباط ساعاتهم البيولوجية هن مضيفات الطيران، فمن الممكن أن يسافرن من بلد نهارا وبعد ساعات قليلة يهبطن في بلد آخر ليلا وبالتالي لا يمكنهن مطلقا ضبط مواعيد النوم، ولا يمكننا التحكم فيها فهي تضبط تلقائيا نتيجة التعرض للضوء.