مساء الأربعاء تزاحم المدعوون والفضوليون وعشاق السينما الإسكندرانية علي باب مسرح سيد درويش العريق، كعادتهم السنوية في استقبال افتتاح الدورة ال 72 للمهرجان.. واعتبرت أن هذا الحشد هو صك نجاح المهرجان قبل أن تبدأ عروض أفلامه .. لم ندخل وسط حراسة أمنية ولا زادت الحراسة عن السنوات السابقة، بالعكس ..فتفاءلنا ..وعادت ابتسامتنا مع انتشار نميمة سينمائية، بأن نادر عدلي رئيس المهرجان سيكرم شيخ الجامع المجاور للقاعة، لأنه دعا المصلين لمشاهدة أفلام المهرجان ..ومرت الأيام الأربعة ليس بسلام فقط .. وإنما بفرح، لأسباب كثيرة، أهمها نجاح السينما في أهم مسئولياتها الاجتماعية والإنسانية ..وهي تحدي الخوف، وفضح انحراف الأفكار، وجلد لصوص الحياة، وإشاعة الأمل في النفوس المرتعشة، والقوة في الركب المخلعة، واستعادة الحلم بحياة أفضل والعزيمة علي تحقيق الحلم.. ومواصلة دورها في نثر بذور الثورات، وريّها بنيران الغضب لو انحرف الحكام .. والتحريض علي رفض الظلم والحق في حياة كريمة .. ثم، وهذا أجمل مافيها، قدرتها علي الصراخ بكلمة "لا" بصوت يزلزل الأرض . واستقبلنا أول "لا" ليلة الافتتاح .. عندما صعد المخرج خالد يوسف – خريج أكاديمية يوسف شاهين – يطالب المجلس العسكري بالإفراج عن فادي مصطفي السعيد الطالب بأكاديمية السينما.. والذي ألقي القبض عليه أثناء أحداث السفارة الإسرائيلية لأنه كان يصور الأحداث كجزء من فيلم تخرجه.. ويتم تجديد حبسه كل 51 يوما .. فانطلقت القاعة بهتاف " حرية .. حرية"، ووقفت الجموع تصفق تأييدا.. ثم أخبرني د. محمد كامل القليوبي أن كل طلبة المعهد مضربون عن الدراسة تضامنا مع فادي - بالإضافة للاستقالة الجماعية لهيئة التدريس - ولا حياة لمن تنادي!! عملا بمبدأ "يخبطوا رأسهم في الحيط" السائد قبل الثورة والباطل بعدها. وتوالت أجمل ال" لاءات " في مجموعة أفلام رائعة تستحق إدارة المهرجان التحية علي اختيارها، وعلي النجاح في استضافة صناعها للتحاور.. من تونس وسوريا وإيطاليا وتركيا.. وانفرد بالإبداع المتميز فيلمان.. الفيلم المصري " حاوي" للمخرج إبراهيم البطوط، والذي عرض خارج المسابقة الرسمية لأنه فعلا خارج المنافسة، ويستحق استفاضة وترحيب، فهو احتفالية شاعرية بالإسكندرية كمدينة لها سحرها الخاص، وبالإنسان كمخلوق مميز ولد حرا ولكن حياته غالبا ماتضيع أو تتوه أو تغتصب وهو يصارع لتذوق هذه الحرية !!..الفيلم تجربة ثورجية مختلفة ولقطات هي لوحات فنية مشحونة بالمشاعر، لناس عادية تحاول أن تعيش حياة كريمة ومرحة وبسيطة .. الفيلم حقيقي جدا وضاعف من مصداقيته الأقرب الي التلقائية، أن كل الممثلين هواة أول مرة يلتقون بالكاميرا الديجيتال التي تعكس الحياة بعفويتها .. برافو يا إبراهيم امتعتنا . ويأتي المخرج التونسي عبد اللطيف بن عمار بفيلمه " النخيل الجريح "- إنتاج تونسي –جزائري- ليتواصل مع ربيع الثورات العربية بحقيقة يعلنها، أن البسطاء هم صناع الثورات وضحاياها، هم وقود الثورات، ولكن التاريخ ينساهم لأن من يكتب التاريخ هم المنتصرون وهم لا يقولون الحقيقة لتجميل صورتهم تاريخيا، أو يكتبه الخونة والجبناء الذين باعوا الثوار .. وأن الشعوب العربية للأسف لا تتعلم من أخطاء الماضي، وهذا سبب كوارثها .. ويسجل الفيلم تفاصيل معركة بنزرتالتونسية التي استمرت يومين ونصفا لطرد آخر جنود الاحتلال الفرنسي عام 16 وهزم فيها الشعب بسبب خيانة أحد المجاهدين الجبناء، واستشهد فيها ألفا تونسي لتصميمهم علي تحرير وطنهم بدمائهم وليس بالقرارات السياسية للأمم المتحدة ..والاسم العبقري للفيلم يرمز لجراح سعف النخيل الشامخة من رصاصات العدو والغدر والخيانة. ويحكي لنا المخرج السوري محمد عبد العزيز عن ثورة الإنسان لامتلاك حريته ضد قمع المجتمع .. من خلال قصتي حب .. لكنه يحكي عن التحول الذي يتواصل في المجتمع السوري الثائر.. وأن قرار إلغاء الترخيص بالتصوير في 41 يناير الحالي كان مفاجأة مفرحة أدت الي تصوير شباب السينمائيين لأكثر من 001 فيلم سجلوا بها الأحداث الجارية .. وهذا إنجاز صحيح لم يرق لمستوي العمل الفني، لكن الكل الآن تواق لسماع صوت السوريين، والصورة هي العدو اللدود للأنظمة، ولو كانت صورة من موبايل الذي حول الهواة إلي جيش من السينمائيين، وبهرتنا نتائجهم الحقيقية المختلفة عن الصورة المزيفة لكاميرا السينما، ويعجز أي سينمائي عالمي في أحداث تأثيرها .. هذه الأفلام تتسرب وتنتشر في ثانية ..وبالتأكيد تزلزل أمن الأجهزة الأمنية وتفضح الأنظمة الحاكمة.. أما أفلام الثورة باهظة التكاليف فهي مسئولية الدولة والسينمائيين. أما أجمل أفلام المهرجان علي الإطلاق، فهو فيلم " سوناتا صامتة " من بوسنيا.. سأعود اليه بالتفصيل. وعرض المهرجان مجموعة رائعة من الأفلام التسجيلية والتحريك والروائية القصيرة لشباب السينمائيين منها 11 فيلما عن ثورة يناير. وتبقي تحية لفريق عمل المهرجان لإصراره علي الاستمرار، نادر عدلي وسمير شحاتة وأمير أباظة ..ولوزير المالية ومحافظ الإسكندرية علي التمويل والمتابعة.. ولجمعية كتاب ونقاد السينما التي تغزل برجل حمار .. وتتواصل فيها الأجيال لتتسلم الشعلة التي أشعلها كمال الملاخ .. وألف سلامة لأهم المؤسسين: الناقدة إيريس نظمي، غيابك هذه الدورة أفقدها الضحكة المجلجلة والعين الحارسة .. ولكن عدوي القلب الشجاع أثمرت هذا النجاح .