أتذكر عندما كنت صغيرا في الستينات كيف حرص والدي رحمه الله علي حجز نسخة جريدة الأهرام يوم الجمعة لقراءة المقال الأسبوعي الوحيد في محاولة لفهم مجريات الأمور السياسية في مصر.. باعتبار هيكل الكاتب الأوحد الأقرب إلي مطبخ السلطة بل طباخا ماهرا كان مسئولا عما يجب أن نعرفه.. هذا لمن استطاع الحصول علي نسخة أهرام الجمعة. وبعد هزيمة 67 تم تطهير الصفوف العسكرية والاستعداد لحرب الاستنزاف التي أرهقت العدو.. إلا أن الإعلام المصري لم يتم تطهيره وبقي (الأستاذ) كما يقولون الكاتب الاوحد الذي يعرف كل شيء ويفهم في كل شيء.. بل تولي وزارة الاعلام ليمارس التعتيم بشكل أوسع مع إطلاق شعارات (لا تستمعوا لإذاعات الأعداء) في رد علي ماتذيعه إذاعات لندن ومونت كارلو وصوت أميركا) آنذاك. رحل عبد الناصر وجاء السادات الذي قرر الاستغناء عن الكاتب الأوحد وتقليص مهامه.. فغضب هيكل وانتحي جانبا وانشغل بإصدار كتب سياسية.. تترجم (لليابانية).. تتناول ما عايشه من أحداث تاركا الساحة لتلاميذ تدين له بالولاء باعتباره الوحيد الذي يفكر جيدا.. ويجيد قراءة الأحداث في العالم العربي..وعندما رحل السادات أخرج ما في جوفه تشكيكا فيما حقق الجيش المصري من انتصار في 37 وأصدر كتابه خريف الغضب ..لم يجد أذنا صاغية ممن خلفه.. وكان كلما اقترب من الصحافة تكهرب الجو مما يثيره من غبار .. وعندما أعلن منذ عدة سنوات اعتزاله الصحافة بمقال (استذان بالانصراف) قامت الدنيا ولم تقعد.. فاتضح أنها مناورة من مناوراته.. فالتقطت قناة الجزيرة الطعم وراح يبث من خلالها ما يريد في بث مباشر في أجيال لم تعاصره.. ليبدو كأنه يلبس طاقية الاخفاء وهو يحكي تفاصيل أحداث رحل كل أطرافها من ملوك ورؤساء منذ الخمسينات حتي عصر السادات.يصنع في الأحداث ما يشاء ليصل إلي ما يريد لنفسه إثباته..مؤكدا دوره الهام في صنع الأحداُث..معتمدا علي غياب كل الأطراف وبالتالي لا مجال للتشكيك.. حتي في راويته عن فنجان القهوة الذي صنعه السادات بنفسه لعبد الناصر ليلة وفاته حتي وهو يستبعد قيام السادات بدس السم لعبد الناصر داخل القهوة كان يريد أن يقول شيئا لا يملك صحته.. مثيرا الزوابع بروح التآمر والاتهام بين أسرتي الراحلين.. حتي جاءت الطامة الكبري بما ذكره للأهرام عن ثروة الرئيس المخلوع.. فلما سئل عن صحة مايقول.. انكشف المستور.. وأنكر ما قاله للأهرام التي أعادت نشر الحديث المسجل بصوته حرصا علي مصداقيتها أمام القارئ. فهلا نقول للكاتب الكبير .. رداً تأخر كثيراً منذ نشر مقاله (استئذان في الانصراف).. قائلين له: (إذنك معاك)!