ذكر إدوارد وليم لين الرحالة والمستشرق الإنجليزي، في كتابه " المصريون المحدثون" حكاية من مصر وصفها بأنها حادث غريب : "فقد اتخذت امرأة وحيدة في مدينة القاهرة، كلبا يؤنسها في وحدتها ، فاختطف الموت هذا الأنيس الوحيد، فعزمت المرأة لحزنها وعطفها عليه أن تدفنه في قبر لائق في مدافن الإمام الشافعي ، فغسلت الكلب، وكفنته في كفن جميل ، ووضعته في نعش ، واستأجرت "نادبات " وأقامت عليه مأتما حقيقيا ، ولم يتم ذلك دون أن يثير عجب الجيران الذين لم يعرفوا المتوفي ، ولم تكن لهم صلة بصاحبة المصاب ، واستأجرت المرأة المرتلين ليسيروا أمام النعش ، وتبعت المرأة والنائحات النعش وهن يصرخن ، وأثار الموكب الحزين فضول إحدي الجارات ، فسألت صاحبة المصاب عن المتوفي . فأجابتها : إنه ابني المسكين . فكذبتها الجارة التي تعلم أن لا ولد لها ولا قريب، فاعترفت السيدة بأن الميت كلبها الغالي ورجتها أن لاتفضح أمرها، ولم تستطع الجارة أن تحفظ السر ، وأذاعت الخبر فانفضت الجنازة ونجت المرأة بحياتها بعد أن حمتها الشرطة من غضب الجماهير . لم تكن " الحاجة ميمي " تعرف شيئا عن هذه القصة والتي خلفت وراءها المثل الشعبي الشهير " الجنازة حارة والميت كلب " وهي تستمع دائما إلي لوم الكثيرين لها عن عنايتها " بكينج " كلبها المدرب الذي يعيش معها وتعتني به عناية شديدة ، حتي إنها تتحامل علي نفسها وتعد له الطعام وهي تتوكأ علي عكازها ، فسنوات عمرها الأربعة وسبعون عاما لم تعد تتحمل الكثير من الجهد ، كانت دائما ما تقابل نظرات التهكم والسخرية ببسمه هادئة حزينة فلا أحد يمكن أن يتصور عذاب وحدتها، وثقل الصمت الذي يخيم علي منزلها الصغير في إحدي عمارات مصر الجديدة القديمة، بعد أن فقدت الزوج والأهل والابنة الوحيدة ولم يتبق لها سوي ولد وحيد لم تره منذ ثلاث سنوات ، كانت تجلس بجوار الشباك الذي يطل علي مدخل العمارة وتتأمل بقايا الشجر وتري في فروعه الجافه المهملة حياتها وهي تمر أمامها ، تذكرت يوم دخلت المنزل وهي عروس سعيدة، ويوم أنجبت ابنها وابنتها التي كلما تذكرتهما شعرت بآلام تهاجم قلبها الضعيف، وكانت تلتفت بحنان لتتحدث مع كلبها الوفي الذي أهداه لها أحد أبناء الجيران قبل سفره إلي الخارج، تحدثه عن ابنتها الجميلة التي أصيبت بالحمي الشوكية منذ خمسين عاما وماتت في أربع وعشرين ساعة، لم تكتف بالحديث عنها بل كانت تريه صورها وهي تحبو ويوم وقفت لأول مرة، وهي تقف علي مسرح مدرستها ، وهي تتوسط زميلاتها في صورة المدرسة كانت تشير عليها وهي تحدثه عن جمالها ورقتها ونبوغها الذي كانت تشيد به الراهبات والمدرسات ، كانت تتحدث وهي تراقب ما تعتقد أنه نظرات عطف وتفهم في عيون الكلب الذي كان ينظر إليها طوال حديثها ويستجيب لإشارتها فيلبي طلبها عندما تطالبه بالنظر إلي الصور ليعود ويجلس أسفل قدميها عندما تعود لحديثها من جديد ، ولا يقا طعهما سوي ردها علي تحية أحد الجيران أثناء دخوله من باب العمارة أو خروجه، وكان يطلق نباحا ضعيفا عندما تنشغل بالحديث لدقائق مع جارتها الفضولية التي لاتكف عن سؤالها عن أحوال ابنها الذي لم تره يأتي لزيارتها منذ مدة طويلة ، لتجيبها " الحاجة ميمي " إنه كان يزورها منذ أيام قليلة وأنها ستطلب منه في المرة القادمة أن يزورها ، وكانت الجارة تطلق ضحكة ذات معني وهي تواصل سيرها ولا تنسي أبدا أن تقول لها جملتها الشهيرة " ربنا يخليلك كينج" ، فهي لم تنس أبدا أيام الشباب فكلهن تزوجن في وقت واحد وكانت ميمي مضرب الأمثال في جمالها وأناقتها ونظافة منزلها ، وكان زوجها كثيرا ما يعايرها بها ويطلب منها أن تقلدها في طريقة الحديث واختيارها لملابسها وحتي وصفات الطهي التي تعلمتها في مدرسة الراهبات ، كانت في كل مرة تنهي " ميمي " حديثها مع جارتها تغلق شباكها وتترك منه فتحة صغيره من أحد الجوانب وتجر قدميها بصعوبة لتصل إلي كرسيها التي اعتادت الجلوس عليه لتنهمر في بكاء مرير ، وهي تتذكر جحود ابنها الذي يقيم في " فيلا " فاخرة مع زوجته الروسيه في شرم الشيخ وعندما يتذكرها كل عدة شهور يكتفي بمكالمة تليفون لاتستغرق أكثر من دقائق معدودة تقضيها وهي تحاول أن تستجدي منه أياما يزورها وتراه وهو يتحجج بانشغاله مع زوجته وأبنائه وحماته التي تقيم معهم ولابد له أن يرعاها ويتابع علاجها حتي لاتغضب منه زوجته ، ومع مرور الأيام كفت عن التوسل اليه لكي تراه هو وأحفادها ، وانشغلت بتأليف القصص والحكايات التي تحكيها لمن يسألها عنه من جيرانها، كانت تحكي لكلبها أنها ستحدثهم عن شقاوة أحفادها، وعن قلقها لأنهم لايتحدثون بالعربية ويستخدمون اللغة الإنجليزية في حديثهم ، وعن الضجيج الذي يقتحمون به حياتها المنظمة ، وعن ألعابهم التي يلقون بها في كل مكان ، ومنحتها تخيلاتها رغبة عارمة بأن تحاول أن تتحدث إلي ابنها فقد تتحول أحلامها إلي حقيقة ويجد وقتا ليأتي لزيارتها ، حاولت عدة مرات وفي كل مرة كان رنين التليفون ينقطع في صمت مفاجئ ، وفي المرة الأخيرة أصبح التليفون خارج الخدمة ، ليزداد بكاؤها وحيرة كلبها الذي كان يراقب تحركاتها باهتمام شديد وعندما سقطت أمامه علي الأرض وهي ترتجف قبل أن تغيب عن الوعي ازدادت حيرته وقبع بجوارها وهو ينبح بهدوء محاولا أن يجعلها تستمر في حديثها معه ، مرت ساعات وهي لاتستجيب له وهو يلعق قدميها ويدفعها بلطف ويعود ليجلس بعيدا عنها ويراقبها حتي تعود وتتحرك ببطء تحكمه الآلام التي تسكن ركبتيها ، لم يجد أمامه سبيلا فهداه وفاؤه لسيدته أن يقف بقدميه علي باب الشقه لينبح بقوة ، ويسرع ليكرر محاولته علي الشباك ، وهو يضرب بقدميه الزجاج محاولا أن يجد لنفسه منفذا من الفتحة الصغيرة التي تركتها سيدته ، نجح في محاولته ليخرج منها مسرعا وينطلق إلي الشقة المواجهة لينبح وهو ينشب قدميه علي الباب حتي فتحه الجار الذي يعرفه جيدا ليستمر في نباحه وهو يجذب الرجل من ملابسه ناحيه شقة سيدته، وأدرك الجار أن هناك شيئا ما فأسرع مع ابنه خلف الكلب الذي قادهم نا حية الشباك ، ليشاهدا " الحاجة ميمي " وهي ملقاة علي الأرض فاقدة الوعي ، فأسرعا بنقلها إلي المستشفي وهم لايصدقون أن الكلب قد أنقذ حياتها وتناقل سكان الشارع الحكاية ، وتناوب الجميع علي زيارتها في المستشفي بعد أن نجت من أزمة قلبية كادت أن تودي بحياتها ، وكان لها طلب واحد من الجميع أن يعتنوا بكلبها حتي تخرج من المستشفي وعندما زارتها جارتها اللدودة وقبل أن تبادرها بسؤالها المعتاد قالت لها ميمي: إنها تشعر بالحزن الشديد لسفر ابنها للخارج مع زوجته وأبنائه ليحصل علي الدكتوراه . قالت لي : أنا أعلم أن ابني جاحد وأعرف أنه ينتظر موتي حتي يحصل علي الشقة، وعرفت من المحامي المسئول عن العمارة أنه ذهب اليه ليعرف منه المبلغ الذي سيحصل عليه بعد موتي لإخلاء الشقه، ولكن ماذا أفعل ؟ قلبي لا يطاوعني أن أدعو عليه، بل وأخاف من غضب الله عليه وأدعو أن يهديه الله، ولا أحتمل أن يسبه أحد أمامي ، وأحاول أن أعيش الفترة التي كان يلجأ فيها دائما لحضني. وباستسلام شديد عودت نفسها عليه قالت: هو أفضل من غيره ، بعد كل ما أسمعه عن الأبناء الذين يقتلون أمهاتهم أو يطردونهن في الشوارع . وعندما عرضت القصة علي الدكتورة آمنه نصير ، أستاذة العقيدة بجامعة الأزهر ، لم تندهش من كل هذا الجحود ، وقالت لي شخصيا مئات القصص في أماكن مختلفه سواء كانت راقية أو شعبية والقاسم المشترك بينها ظاهرة جحود الأبناء ، والأم في قصتنا التي نتحدث عنها تمثل الأمومة بمعناها الحقيقي وأقول إن الابن هنا وأمثاله لايعقون الأم أو الأب فقط وإنما يتنكرون لحكم الله الذي قال "وَقَضَي رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " فإحسان الأبناء للأمهات قضاء الله ، ولايوجد مبرر للأبناء الذين يتعللون بالمسئوليات والبحث عن لقمة العيش، وأقول لهم جميعا خافوا من الله فعقوق الوالدين هو الطريق إلي جهنم وهو أمر ليس فيه نقض أو شفاعة. الدكتور أحمد يحيي أستاذ علم الاجتماع بجامعة قناة السويس يرجع ظاهرة جحود الأبناء إلي تفشي الفردية في المجتمع وتعظيم القيم المادية وغياب التواصل والإنسانيات ، إلي جانب تدخل عامل آخر وهو ارتباط الابن بزوجة لديها حب التملك والرغبة في السيطرة واستغلال الضعف في شخصية الابن ، إلي جانب أمر هام فالإنسان يتلقي جزءا كبيرا من تكوين شخصيته من خلال التعليم الذي تقلص دوره مع غياب التربية في المدارس والإعلام الذي يغيب عنه الدور الثقافي والاجتماعي في تكوين شخصية النشء وأصبح يعتمد علي الإثارة ولاأستثني من هذا الإعلام الديني ولا الثقافي وبصراحة لم يعد لدينا تعليم أو إعلام ، وعلاج هذه الظاهرة لابد أن يبدأ منذ الصغر ويربي الأطفال علي القيم والأخلاق والمبادئ الدينية والإنسانية . وإلي أن نبدأ في مراجعة أنفسنا ونتذكر أن ما نعلمه لأبنائنا في الصغر لابد أن نراه في الكبر ، مازالت " الحاجة ميمي " تعيش مع كلبها الوفي ، ومازالت مستمرة في تأليف القصص التي ترويها للجيران عن بر ابنها بها .