« كل حب وأنت طيب يا كل إنسان طيب» صباح.. ومساء الحب من مدينة مونز البلجيكية الحاضنة لمهرجان الحب وأفلامه في دورته ال32.. أفلام تحمل حلاوة الحب.. وأشجانه.. تطير بنا وتحلق في عالم الرومانسية والخيال تصبح الدنيا فيها وردية اللون.. وأخري تنغمس في واقعنا وتغوص في أعماقه بصدق شديد بها من الحنان والتطلع والتعاطف.. ما يوازي تماما القسوة.. والكلمة المضادة « للحب».. «الكراهية» وهي شيء يحيل حياة الإنسان لعذاب شديد.. وبداية الطريق للكراهية.. «الغيرة» المدمرة للإنسان والنفس والروح.. وهو شيء مختلف تماما عن «المنافسة الشريفة» وهي غيرة إيجابية تحفز طاقة الإنسان للإبداع وأن يكون بين الناجحين.. فالقمة مهما كانت ضيقة إلا أنها تتسع للكثيرين. في إطار هذه الدورة يعرض ما يقرب من 142 فيلما من جميع أنحاء العالم وللدول العربية نصيب.. فهو واحد من مهرجانات عالمية في أوروبا يهتم بالتواجد العربي والسينما العربية سواء الروائية الطويلة أو القصيرة. في هذا العام يشارك الفيلم المصري المتميز «نوارة» للمخرجة القديرة الشابة «هالة خليل» في برنامج «أضواء علي سينما مغايرة».. كما يشارك الفيلم الجزائري «الآن يستطيعون العودة» والتونسي «حرة».. والفلسطيني «العد التنازلي».. وذلك بمشاركة مخرجي هذه الأفلام. وفي لجان التحكيم.. خاصة لجنة تحكيم أفلام المرأة وهي لأفضل فيلم اجتماعي يهتم بمشاكل الأسرة.. الشباب.. الأطفال فتشارك فيها الفنانة الفلسطينية «عرين عمري».
وللمهرجان تقليد خاص حيث يختار كل عام «أما» روحية تفتتح الدورة وعادة ما تكون فنانة كبيرة أعطت الكثير من عمرها للسينما وهي الفنانة الفرنسية «نيكول كالفن» التي شاركت في العديد من الأفلام الفرنسية والأوروبية وقدمت العديد من الأدوار أمام آلان ديلون.. وجان بول بلموندو والكثيرين من نجوم السينما.. وهي أيضا ممثلة مسرحية ذات باع طويل علي خشبة المسرح.
ومن أهم ما يتميز به مهرجان مونز منذ سنوات طويلة هو اهتمامه بالعروض الخاصة (بالمكفوفين) من فاقدي البصر.. وذلك عن طريق شرح مفصل للصورة ونقل أدق التفاصيل. كما يحرص مهرجان مونز في كل دوراته علي استضافة عدد كبير من متحدي الإعاقة وتوفير كل السبل لهم لمشاهدة ومتابعة الأفلام كل حسب حالته.
حفل الافتتاح الذي عزفت الأوكسترا الملكية البلجيكية.. وذلك بقيادة المايسترو العظيم «فلاديمير كوزما» الذي كرمه المهرجان في هذه الدورة وهو يعد أيضا واحدا من أشهر من قاموا بتأليف الموسيقي التصويرية المصاحبة لأشهر الأفلام السينمائية، جاء بسيطا لكنه مليء بالمشاعر الفياضة عبر موسيقي أفلام سينمائية تحمل عبق الماضي بما فيه من حنين وجمال. كما تم اختيار الفيلم الفرنسي «طبيب في الريف» ليكون فيلم الافتتاح وهو من إخراج الفنان الطبيب توماس ليلتي الذي عمل بالطب فترة لايستهان بها وقدم من قبل فيلمه الشهير «أبقراط». الفيلم بطولة «فرانسوا كلوزيه» وماريان دوني كور و«إزابيل سوديان» وقد شارك مع «توماس» في كتابة السيناريو «بايا قسمي». الفيلم يحمل قصة إنسانية صورها منقولة عن وقائع حقيقية وتجارب إنسانية عاشها «توماس» باعتباره طبيبا.. وقد صاغها كلها بشكل إنساني وصدق شديد. الطبيب «جان بيير» الذي يخدم أهل قريته وعددا من القري القريبة منها ،هو ليس بطبيب عادي بل هو يهتم بكل فرد في هذه القرية ويعمل علي مساعدة الجميع في أي مجال.. يكتشف أنه مصاب بمرض خطير في المخ.. ويصارحه طبيبه بأنه لا يستطيع أن يتحمل العمل وعليه أن يتقاعد.. لكنه يرفض ويطلب المساعدة من إحدي زميلاته التي تحضر لكي تساعده.. وسرعان ما تكتسب ثقته وثقة مرضاه.. وتنجح في أداء دوره كطبيب ومساعد لأهالي البلدة.. هي تملك الأساليب الحديثة وهو مازال يملأ الأوراق (أفيشات المرضي). إن الحالة الإنسانية التي يخلفها هذا الطبيب الإنسان هي التي تجعله واحدا من أبرز وجوه المدينة.. وعندما تكتشف حقيقة مرضه فإنها تتفهم قسوته في بعض الأحيان. ويبقي الأمل في الشفاء نابعا من حب الناس له.. وحبه هو للحياة حتي تحدث المعجزة ويتراجع الورم عن التقدم ويستجيب للعلاج الكيميائي الحديث.. ومع بوادر الشفاء ينفتح قلبه للحب لها ويبدأ في قبول استمرارها معه كشريكة في الحياة والمهنة الإنسانية. توماس يحتفل هذا العام بعيد ميلاده الأربعين ..درس الطب وهو ممارس عام مازال يعمل في هذه المهنة التي يعشقها.. والطريف إنه منذ كان طالبا في كلية الطب كان يقوم بعمل أفلام قصيرة يعرضها ويشارك بها في مهرجانات ويحقق منها فوزا «كمشاريع للطلبة». وقد ترشح «توماس» أكثر من مرة لجوائز السيزار.. وفيلمه «أبقراط» هو يوميات طبيب ومذكراته. وقد أهدي توماس فيلمه إلي والده الذي كان أيضا طبيبا شهيرا .. والحق لقد نجح «توماس» في تقديم فيلم جميل يحمل الكثير من المشاعر الدافئة.. والأمل في روح التعامل والتعاون.. وهو ما نفتقده اليوم في الكثير من أمور حياتنا. مهرجان مونز يحتفل بدورته ال 32 هذا العام في الفترة من التاسع عشر من فبراير إلي السادس والعشرين منه.. أي بعد أيام قليلة من عيد الحب.. ولعل أهم مايميز -كما أشرنا من قبل - الاحتفال بهذا المهرجان أنه يشبه «عيادة نفسية» مليئة بالمشاعر الإنسانية بكل تناقضاتها.. وعليك أنت كمشاهد استيعاب وتفهم هذه المتناقضات والتعاطف معها والبحث ربما عن أعذار لها.
ومن الأفلام الجميلة التي عرضت في أول أيام المهرجان وأثارت التعاطف والإعجاب وقد عكست بصدق حركة التغيير الكبري التي حدثت في كندا في بداية الستينيات.. التي نالت الكثير من مدارس الراهبات لكنها عضدتها في النهاية.. الفيلم الكندي (عشق أوجستين) للمخرجة المتميزة «ليابول» وبطولة الفنانة القديرة سيلين بونيه.. وليسندرا مينار.. وقد شاركت ليابول في كتابة السيناريو «ماري فيان». تدور الأحداث في بداية الستينيات حيث تدير الراهبة «الأم أوجستين» أحد الأديرة التي تدرس فيها الموسيقي الكلاسيك كمادة أساسية. وفي أحد الأيام تحضر إلي الدير شقيقتها التي لم ترها منذ ما يزيد علي الخمسة عشر عاما لتترك لها ابنتها في رعايتها حيث إنها ستسافر في جولة فنية طويلة.. والفتاة مثل والديها وخالتها عازفة بيانو موهوبة. وتبدأ القوانين في كندا في السيطرة علي المدارس الخاصة وخاصة مدارس الراهبات لكن الأم «أوجستين» لاتستسلم وتدافع عن بقاء الدير الخاص بها.. وتطالب بحق الفتيات أن يتم الدعم لمدارسهن مثل الأولاد تماما.. وفي نفس الوقت تبذل جهدا كبيرا مع ابنة شقيقها للحصول علي الميدالية الذهبية للعزف في المدارس، وتفاجأ الأم أوجستين بكبيرة الراهبات تقف ضدها.. فما كان منها إلا أن تترك الرهبنة.. وتنشئ مدرسة خاصة لتعليم الفتيات.. تنتقل إليها باقي الراهبات والفتيات فقد آمنّ جميعا بحجة الأم أوجستين وأن الموسيقي تسمو بالروح.. وخصوصا أن الراهبات تقبلن فكرة خلع الزي القديم التقليدي لهن.. وذلك في مشهد مؤثر للغاية وكأنهن يتجردن من ثيابهن ويقمن بقص شعرهن ليندمجن في الحياة العامة دون أن يتخلين عن الرهبنة التي وهبن حياتهن لها. إن هذا الفيلم الرائع المليء بالمشاعر الجياشة.. والموسيقي الكلاسيك :بيتهوفن.. شوبان.. موزارت.. جعل كل من يشاهده في حالة سلام نفسي مستمتعا بما تراه العين وتسمعه الأذن وهذا هو الفن الراقي الذي يسمو بالأخلاق والروح.