بعض الفنانين يبهرونك بفنهم.. بتمثيلهم الجيد لأدوارهم.. ولكنك عندما تقترب منهم يضيع انبهارك الشديد لأنك تكتشف فيهم عيوبا مفزعة لم تكن تتوقعها. وآخرون يزداد إعجابك وانبهارك بهم عندما تقترب منهم.. لأنك تكشف فيهم صفات ومزايا إنسانية فريدة.. ومن هؤلاء القلائل جدا.. شادية. ففيها أكثر من صفة إنسانية رائعة.. أولها الصراحة.. فهي ليست من الذين يخفون مشاعرهم وآراءهم الحقيقية وراء الكلمات المعسولة الكاذبة. وثانيها البساطة.. فهي لا تجيد التمثيل في الحياة كما تجيده علي الشاشة. الحقيقة دائما علي لسانها.. والبساطة دائما في سلوكها والرقة دائما في كلماتها. وهذا هو سر احترام الناس لها. احترموها عندما كانت (الدلوعة) التي تردد الأغاني الخفيفة المرحة.. واحترموها أكثر عندما غنت لمصر الأم والوطن. ولم يكن غريبا أن يطلقوا علي صوتها اسم (صوت مصر).. لأنه أرق الأصوات التي غنت لمصر. وسيظل صوت شادية دائما هو أرق الأصوات التي غنت للحب.. وللحياة.. ولمصر. هذه الشجرة الخضراء الكبيرة التي أراها كل يوم من الطابق الثامن.. وهذا النيل العظيم الذي تطل عليه شرفة مسكني.. يذكرني دائما بأجمل أيام العمر.. بطفولتي وأحلامي المبكرة القديمة.. وبراءة الطفولة.. وحنان الأبوين.. وأيام المرح والأمل.. الأيام التي لا أنساها أبدا. هذه الذكريات القديمة تكاد تملأ كياني كله.. وتغمر روحي ووجداني خصوصا في لحظات الشروق.. وأشعة الشمس تداعب وجه النيل.. الذي أري فوقه ابتسامة تفاؤل مع بداية يوم جديد.. فأنا أحب شروق الشمس.. أري فيه التفاؤل.. والأمل.. وصفحة جديدة بيضاء.. ورغبة أقوي في الارتباط بالحياة. أما الغروب فلا أحب أن أراه.. أسرع لأسدل الستائر.. حتي لا أري الشمس وهي علي وشك الرحيل. الغروب هو الوداع.. الرحيل .. النهاية.. نهاية يوم.. ومع النهايات دائما تأتي المشاعر الحزينة.. وتمتلئ النفس بالتأثر.. خصوصا لو كانت نفسا حساسة تحب الحياة وتحرص علي التمسك بها. لكن مع الشروق.. تنشط الذكريات في عقلي.. فتشيع في روحي دفء وحرارة الطفولة.. وأيام الصبا التي تبقي دائما راحة للنفس المتعبة المرهقة بذكرياتها وأحلامها.. يكفي أن أتطلع إلي هذه الشجرة الخضراء الكبيرة حتي تتسابق الذكريات إلي عقلي.. لذلك حزنت كثيرا عندما علمت أنهم يفكرون في إزالتها.. شجرتي حبيبتي التي أحببتها حبا يفوق حبي للبشر.. لماذا يزيلونها.. أنها وحي ذكرياتي.. وصديقتي في ساعات الوحدة.. أخلو إليها وأكاد أخاطبها.. بل وأكاد أسمعها وهي تناجيني.. نتذكر معا أيام العمر.. أيام الصبا الجميلة التي قضيتها وسط زميلاتها الشجرات الخضراوات.. اتطلع إلي شجرتي صديقتي حبيبتي التي أخشي يوم فراقها: لا أريد أبدا أن أري المعاول وهي تحطمها بقسوة وبلا رحمة.. لتحطم معها نبع الذكريات السعيدة.. وكل أحلام الصبا التي تظل دائما أجمل وأروع الأحلام.. أتطلع إليها بسرعة تتسابق الذكريات إلي عقلي وتغمر روحي ووجداني. اتذكر إنشاص.. والحدائق الواسعة الممتدة بلا نهاية.. واللون الأخضر الذي يغطي الأرض.. لدرجة أني كنت أتصور أن اللون الأخضر هو اللون الطبيعي للأرض.. كل أنواع الفواكه حولنا تحيط بنا من كل جانب.. كان منزلنا عبارة عن فيلا مكونة من غرفتين للنوم وصالتين ومطبخ وحمام.. وكان لها بابان مازلت أذكرهما بوضوح.. باب يؤدي إلي الحديقة وباب يوصل إلي المزرعة.. فتحت عيني علي البرتقال والعنب.. وعلي جمال الطبيعة والزهور.. والمروج الخضراء.. وما زالت أذكر هذا المكان الذي كانت تختاره أمي للجلوس وقت المساء في الليالي الصيفية - بجوار الباب المؤدي إلي الحديقة.. فوق سجادة كانت تجلس عليها دائما.. وكان أخوتي طاهر ومحمد وعفاف وسعاد ينامون عادة في وقت مبكر.. أما أنا فكنت أبقي ساهرة مع أمي.. وأضع رأسي في حجرها.. كانت ساقها وأحضانها الدافئة الوسادة المريحة التي كان يحلو لي دائما أن أضع رأسي عليها.. وسرعان ما تمتد أصابع أمي لتداعب شعري ورأسي الصغير.. وكنت أشعر بمتعة شديدة ورغبة قوية في النوم.. وأنا عادة أحب أن أنام مع الأصوات.. وحتي الآن مازالت أحب أن أنام مع صوت الراديو. وبين اليقظة والنوم كنت أشعر بخطوات أبي وهو يهبط درجات السلم قادما من داخل البيت إلي الحديقة.. لقد انتهي من عمله كمهندس زراعي في التفاتيش الملكية في إنشاص.. وأسمع صوته وهو يتحدث مع أمي.. واتصنع الاستغراق في النوم حتي لا يتوقف عن الحديث.. ماكل هذه الرقة التي كان يتحدث بها أبي لأمي.. ورقة متناهية.. أنه أحلي كلام يقوله زوج لزوجته.. الكلمات التي تحب كل زوجة أن تسمعها من زوجها.. أنه يحكي لها بتفاصيل شديدة كيف قضي يومه.. وبحنان لاحدود له.. لن أقول لك إن كلام أبي كان مثل الشعر حتي لاتتهميني بالمبالغة. لقد أخذت الرقة من أبي.. وتعلمت منه أيضا أن الشخصية القوية هي أساس الإنسان. كان أبي صاحب صوت جميل.. وكان أيضا مستمعا جيدا يجيد الإنصات كما يجيد الكلام.. لقد علمني أيضا كيف أحسن الاستماع.. وكيف أحترم نفسي. ومع أصوات الطيور كنت دائما أسمع صوت أبي وهو يغني مع أصدقائه وسط الحديقة (النيل نجاشي) و(مريت علي بيت الحبايب) ولم أكن أدرك معني كلمة (نجاشي) هذه.. ولم أكن أفهم لماذا يصر علي المرور علي (بيت الحبايب). وكنت أقضي معظم وقتي في غرفة العرائس الخاصة بي التي جمعت فيها أسرة كاملة من العرائس الجاهزة التي كان أبي يشتريها لي دائما كلما ذهب إلي القاهرة.. ومن العرائس المصنوعة التي تعدها لي أمي إرضاء لهوايتي المحببة إلي نفسي.. أما الصناديق فكنت أحولها إلي أسرة تنام فوقها هذه العرائس التي مازلت أذكرها حتي الآن لأني قضيت معها أيام الطفولة البريئة الرائعة. الطفلة الشقية سرقت فواكه الملك لكني كنت طفلة شقية جدا.. أو هكذا كانوا يسمونني (العفريتة).. قد يكون السبب أني كنت أحب الضحك والمرح والانطلاق أكثر من بقية إخوتي وأخواتي.. بل لقد أصبحت أكثر (شقاوة) من أخوتي طاهر ومحمد. كانت تستهويني الرغبة في تسلق الأشجار العالية مثل القرود.. ويبدو أني كنت حريصة علي التمسك ببعض العادات والتقاليد التي يجب مراعاتها في وجود الأب احتراما وتقديرا له.. فمثلا لم أكن أتمسك بالموعد الثابت للغداء.. ولا أنتظر حتي يحضر أبي.. وآكل عندما أجوع.. بل وألعب وأتشاجر أمام أبي.. وهذا في رأي أخوتي عمل طائش يستحق العقاب.. لكن أبي لم يكن يغضب مني.. ويبدو أن تسامحه معي هو الذي دفعني إلي المزيد من (الشقاوة). ولا أنسي أبدا (المقلب) الذي دبرته لشقيقي محمد.. وكان من نتائجه إصابته بجرح عميق في يده.. وندمت علي ذلك واعتذرت له.. فهو أخي الأكبر ولابد أن أحترمه. وإذا كانت غرفة العرائس هي أفضل الأماكن التي أحبها فإن (المرجيحة) أيضا كانت المكان الذي أحرص علي التواجد فيه لألهو وألعب بكل نشاط ومرح الطفولة. ويبدو أنهم كانوا يغفرون لي كل هذه الشقاوة.. لأني أصغر أفراد الأسرة.. والطفل الآخر الذي يسمونه (آخر العنقود) يعامل دائما معاملة خاصة في أسرنا المصرية.. وهكذا استفدت من هذه الميزة الكبيرة.. ميزة أني (آخر العنقود).. واستمتعت بأيام طفولتي.. وساعدني علي ذلك مناظر الطبيعة وسط حدائق إنشاص التي شاءت الظروف أن أقضي فيها طفولتي بحكم عمل والدي هناك.. لقد كانت فعلا طفولة سعيدة.. فيها المرح.. والحب.. حب الأسرة المتماسكة المترابطة. وأذكر أننا كنا نقيم مسرحا أثناء اللعب.. فنحضر ملاءة السرير ونضعها كأنها ستار ثم نقوم من خلفها بالتمثيل والغناء.. ولم يكن أحد ينهرنا أو يؤنبنا لأننا نمثل ونغني.. لقد كان أبي صاحب صوت جميل كما قلت.. وكان دائما يغني وسط الحديقة عندما يأتي أقاربنا لزيارتنا.. ولم يكن هو وحده صاحب الصوت الجميل.. فعفاف أختي صوتها جميل.. وأيضا شقيقي محمد له صوت جميل.. وأذكر أن أبي اشتري لنا عودا.. وبدأ أخي محمد يعزف عليه ليزيد من جو المرح والحب الذي كنا نعيش فيه. ورغم أن حديقة المنزل كانت مليئة بكل أنواع الفواكه إلا أنه كان يحلو لنا نحن (الشياطين الصغار) أن نقترب من حدائق الملك.. ونحاول أن نتسلق السور الملكي لنسرق الثمار من حديقة الملك.. كنا نشعر بمتعة غريبة وشعور بالانتصار لأننا نجحنا في سرقة ثمار حديقة الملك دون أن يقبض علينا أحد. وكان هذا يرضي غرورنا المبكر كأطفال ليسوا جبناء بدليل أنهم فعلوا ما لم يكن يجرؤ علي فعله الكبار.. فتسلقوا أسوار حدائق الملك.. وأكلوا من نفس الفواكه التي يأكل منها الملك شخصيا. ومرت أيام الطفولة مرحة سعيدة في إنشاص.. يكللها تآلف وتحاب الأسرة الواحدة.. ورقة الأب.. وحنان الأم .. وبدأنا نكبر.. وكان هذا اليوم الذي لا أنساه.. اليوم الذي عرفت فيه أننا سنترك إنشاص.. كان لابد أن نذهب إلي القاهرة لكي نلتحق بالمدارس.. فأبي حريص علي أن نكمل تعليمنا. وبكيت.. وأنا أدوع إنشاص.. والأشجار الخضراء التي قضيت وسطها أجمل أيام العمر.. أيام البراءة والمرح والشقاوة.. بكيت وأنا أري حدائق إنشاص وهي تختفي بالتدريج من أمام عيني.. وظللت أجفف دموعي حتي اقتربت السيارة من القاهرة. إيام شارع طوسون استأجر لنا أبي مسكنا في حي شبرا.. وفي شارع طوسون.. والتحقت بمدرسة شبرا للبنات.. وأيضا التحق بقية إخوتي بالمدارس.. وبدأت مرحلة جديدة من حياتي تختلف عن حياتي الأولي في إنشاص.. إنه الفارق بين حياة المدينة المزدحمة.. وحياة المناطق الريفية وللحدائق للواسعة والمرح والانطلاق.. لذلك حرصنا علي أن تستمر علاقتنا بإنشاص.. وكنا نتعجل انتهاء الموسم الدراسي لكي نذهب إلي إنشاص.. إلي الحدائق وأيام المرح مع أبي الذي كان يقضي معظم أيام الأسبوع هناك بحكم عمله ليعود إلينا في القاهرة كل يوم خميس. وبدأت أحاول أن أتقبل هذه الحياة الجديدة.. حياة القاهرة التي تختلف كثيرا عن حياة إنشاص. وأصبح لي صديقات في المدرسة.. أقربهن إلي قلبي هاتان التلميذتان اليتيمتان.. كنت أتولي مهمة الدفاع عنهما باستمرار.. خصوصا أني نجحت في أن أصبح (زعيمة) لمجموعة البنات من زميلاتي في المدرسة. وبعد انتهاء الدراسة أعود إلي المنزل.. وأخلع ملابس المدرسة بسرعة لأنزل إلي الشارع لأمارس هوايتي الجديدة.. لعب (الحجلة) أو (الأولي)، كما كنا نحب أن نسميها.. وأظل ألعب (الحجلة) مع بقية صديقاتي الصغيرات أمام باب البيت في شارع طوسون.. ومن وقت لآخر كانت أمي تطل علينا من شرفة الدور الخامس لكي تطمئن علينا أو لتنادينا أنا وإخوتي لكي نصعد لتناول الطعام أو لمساعدتها في حمل أي شيء. كانت حياتي في شارع طوسون متواضعة بسيطة (علي قدنا).. لكنها رغم ذلك كانت حياة لها طعمها الخاص ولها حلاوتها ونشوتها. وكنت أنتظر يوم الخميس بلهفة شديدة لأنه اليوم الذي يصل فيه أبي حبيبي من إنشاص لكي يأخدنا معه إلي سينما دولي.. ومازلت أذكر أول فيم شاهدته في حياتي. كان فيلم (ليلي) المأخوذ عن قصة (غادة الكاميليا) وكان البطل هو حسين صدقي.. أما البطلة فهي ليلي مراد التي تأثرت جدا بها.. وكنت أقف بالساعات أمام المرآة لكي أقلدها وأمثل وأغني مثلها.. ولكن أحدا لم يكن يهتم بصوتي.. لم يلتفت أحد منهم أبدا للأغاني التي أرددها أحيانا.. ولم أسمع أحدا يشجعني ويقول لي برافوا يافاطمة.. صوتك جميل.. جملة كنت انتظرها لكني لم أسمعها.. لأن أختي عفاف كانت قد سرقت كل إعجاب الأسرة.. فالمعروف أنها هي صاحبة الصوت الجميل.. وكانت دائما تغني في المناسبات واللقاءات العائلية وسط استحسان وإعجاب وتشجيع كل الأقارب الذين لم ينتبهوا أبدا إلي صوتي الذي ضاع إلي جانب صوت أختي عفاف الجميل.. بشهادة الجميع واعتراف الجميع.. وأنا نفسي كنت أعرف ذلك.. لذلك لم أكن أحاول أن أغني كثيرا خصوصا في حضور صاحبة الصوت الجميل أختي عفاف. إلي اللقاء في العدد القادم نشرت في العدد 6912 بتاريخ 42/11/6791