تجد بيتاً مصرياً يخلو من منتجاتها التي حازت الثقة. جودة ما تقدمه وملاءمة أسعارها للجميع، جعلت «بسكو مصر» تتربع علي عرش أنجح شركات الصناعات الغذائية المنتجة للبسكويت ومختلف أصناف الحلويات والمخبوزات، وعلي مدار عقودٍ ظلت الشركة التي أسسها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عام 1957 تعمل بدماءٍ مصريةٍ خالصة. كل ذلك كما يبدو سيتحول إلي ذكري بعد عرض الشركة مؤخراً للبيع، في تحد سافر لقرار الرئيس السيسي بوقف الخصخصة، حيث اقتربت إحدي الشركات الأمريكية من الاستحواذ علي «بسكو مصر»، ما يهدد مستقبل نشاطها ومصير 4000 عامل يشكلون عصب بنيتها الإنتاجية، ويجعلنا نشهد حلقةً جديدة من مسلسل تفتيت الصناعات الوطنية الناجحة، التي كنا نظن أن ثورة 25 يناير قادرةٌ علي وضع نهايةً له. البيع يشرد أربعة آلاف عامل.. وتقارير دولية: «كَلوجز» تقدم منتجات مسرطنة إسرائيليون يمتلكون الأسهم الأكبر في الشركة الأمريكية فبمجرد الإعلان عن فتح باب تقديم العروض لشراء شركة «بسكو مصر» تهافتت شركات أجنبية لنيل هذه الفرصة التي تُقدم إليهم علي طبق من ذهب، خاصة أنها حققت طفرةً في الأرباح تجاوز الصافي منها خلال العام الماضي فقط 62 مليون جنيه، وفقاً للميزانية السنوية والقوائم المالية للشركة والتي حصلت «آخر ساعة» علي نسخة منها. هيمنت الصناديق الاستثمارية علي «بسكو مصر» التي تم خصخصتها في أواخر عام 2005 - لتتحول إلي شركة مساهمة لا تتجاوز حصة الدولة فيها 20% من إجمالي الأسهم- تجعل صفقة البيع قادمة لا محالة، بعد أن تعهد ملاك 51% من الأسهم بالاستجابة إلي عرض الشراء المقدم من شركة «كِلوجز» الأمريكية، للاستحواذ علي 100% من أسهم الشركة مقابل 900 مليون جنيه. تفاصيل كارثية يحويها عرض الشركة الأمريكية الراغبة في شراء «بسكو مصر» بتضمنه بنداً يجحف صراحةً حق العمال في الاستمرار بعملهم، حيث يتيح للشركة الاستغناء عن العاملين بعد 12 شهراً من توقيع العقد. وبندا آخر يعطي الشركة حق بيع أصول الشركة بانقضاء المدة ذاتها. لم ندرك فداحة ما يجري الإعداد له إلا بتواجدنا وسط جموع عمال «بسكو مصر» أثناء وقفتهم الاحتجاجية داخل المقر الرئيسي للشركة بمنطقة الأميرية. صيحات غضب وهتافات احتجاج استقبلتنا بمجرد اقترابنا من العمال المطوقين بأفراد الأمن. ورغم ما يعانيه العمال من تدني أجورهم وسوء أحوالهم المعيشية إلا أن جميع مطالبهم انصهرت في هتافٍ واحد، « بسكو مصر بتاعت مصر» تعبيرا عن رفضهم بيع الشركة للأجانب. «عايزين يشتروا الشركة ويرمونا في الشارع بعد سنة» بادرتني كوثر رمضان التي أفنت 35 سنة من عمرها داخل المصنع، وهي تسترجع بحسرةٍ ما وصل إليهم عن نية الشركة الأمريكية تصفية العمال بعد عام واحد. تتابع: البعض يروج أخباراً كاذبة عن أن «بسكو مصر» شركة خاسرة ليجدوا مبرراً لبيعها. وهذا غير صحيح لأن أرباح الشركة تزيد كل سنة عن سابقتها. وللأسف تعرضنا لابتزاز وتهديد من الإدارة لأننا نطالب بحقوقنا، فوجئنا أن مسؤولي الشركة أحالوا عددا من العمال للتحقيق بتهمة تعطيل العمل، واتهمونا بالبلطجة واحتجاز رئيس مجلس الإدارة لتشويه صورة العمال والتقليل من شأن مطلبنا بعدم بيع الشركة، وللأسف هذه الصورة الخاطئة هي التي نقلت إلي وزارة القوي العاملة ماجعل الوزيرة تحذرنا بإجراءات رادعة ضد المحتجين. وطالب هشام معروف رئيس اللجنة النقابية بالشركة والأمين العام لنقابة العاملين بالصناعات الغذائية الحكومة ممثلة في وزارة القوي العاملة ووزارة الاستثمار بحماية حقوق عمال «بسكو مصر»، وإلغاء البند الثالث من الفقرة الخامسة بعرض شركة «كِلوجز» الأمريكية الذي أثار غضب العمال لأنه يهدد مستقبلهم الوظيفي بالشركة، رغم أنهم أفنوا أعمارهم للنهوض ببسكو مصر حتي وصل عائد أسهمها إلي 92% في الربع الأخير من 2014. وأوضح أن «بسكو مصر» تمتلك أصولا ضخمة جداً تتوزع علي ثلاثة مصانع، كما تضم 82 ألف فدان تابعة للشركة بمنطقة السيوف بالإسكندرية، غير أنها تمتلك 36 منفذاً بيعياً. إذا كان بيع شركة وطنية ناجحة تمثل خسارة فادحة للاقتصاد المحلي، إلا أن الكارثة الأكبر تكمن في حقيقة شركة «كِلوجز» الأمريكية الراغبة في شراء «بسكو مصر» والتي تصنف علي أنها شركة متعددة الجنسيات يملك مساهمون إسرائيليون الحصة الأكبر من أسهمها. ما تردد عن إنتاج الشركة لمنتجاتٍ مُسرطنة دفعني للبحث بعمق عن حقيقتها. ولم أكن أتخيل أنه بمجرد إدخالي لاسم الشركة باللغة الإنجليزية علي محرك البحث «جوجل»، سينهال عليّ سيلٌ من تقارير منظمات المجتمع المدني والمراكز البحثية الأجنبية التي تفضح الشركة وتحذر من خطورة منتجاتها. حيث يوضح تقرير صادر عن مركز «سلامة الأغذية الأمريكي» وفقاً لتحاليل أحد المعامل الخاصة بالهندسة الوراثية أن 85% من الذرة التي تستخدمها شركة «كِلوجز» لإنتاج الرقائق والحبوب تم تعديلها وراثياً وأضيفت لها مادة الغليفوسات السامة. ويشير تقرير للرابطة الأمريكية لمستهلكي المواد العضوية أن قائمة المواد المسببة للسرطان والتي تدخل في منتجات «كِلوجز» تمتد لتشمل سكر البنجر ومنقوع فول الصويا وزيت الكانولا وزيت بذرة القطن، والتي تنتجها شركة «مونسانتو» العاملة في مجال التكنولوجيا الزراعية. كما تحذر دراسة صادرة عن مركز «رود لسياسات التغذية والسمنة» التابع لجامعة «يل» الأمريكية، بأن الشركة تستخدم مواد كيميائية حافظة في منتجاتها تضر بصحة الأطفال، من أخطر هذه المواد مادة «البوتيل هيروكسي» التي كشف الباحثون أنها تشكل مادة مسرطنة عند دمجها مع غيرها من المواد الغذائية. ولم تقتصر خطورة ما تقدمه «كِلوجز» علي محتوي منتجاتها، بل امتد إلي عبوات تغليفها التي تنتج من الورق المعاد تدويره والمشبّع بزيوت معدنية تتسرب إلي المنتج، وذلك وفقاً لتقرير نشرته صحيفة «دايلي ميل» البريطانية بعنوان «صناديق رقائق الذرة تحتوي علي زيوت قاتلة»، والذي ورد فيه أن المواد الكيميائية والهيدروكربونات الموجودة بالزيوت المعدنية يمكن أن تسبب التهابات في الأعضاء الداخلية وأورام سرطانية إذا استخدمت بكميات كبيرة علي المدي البعيد. ويؤكد شحاتة محمد مدير المركز العربي للنزاهة والشفافية أن استماتة شركة «كِلوجز» لشراء «بسكو مصر» يفسر رغبتها في استغلال الاسم الذي يثق به المصريون لتمرير منتجاتها المشبوهة بكثافة إلي السوق المصري، بعد أن شنت عليها منظمات المجتمع المدني العالمية حرباً شرسة وحملات أسفرت عن منع منتجاتها المعدلة وراثيا من دخول دول الاتحاد الأوروبي، كونها من المسببات الرئيسية لمرض السرطان. غير العلاقة الوثيقة بينها وبين الكيان الصهيوني عبر مساهمين إسرائيليين يملكون الحصة الأكبر من أسهمها، ما دفعني لتقديم بلاغ إلي النائب العام حمل رقم 23263 لسنة 2014 لوقف بيع «بسكو مصر». وتحذر الدكتورة سلوي العنتري الخبيرة المصرفية وأمين اللجنة الاقتصادية في الحزب الاشتراكي المصري من أن العروض المقدمة لشراء شركة «بسكو مصر» تهدد بنيتها الإنتاجية لأنها تتيح التصرف في أصول الشركة «وفقاً لمقتضيات تسيير الأعمال» وهي جملة مطاطية، فأصول الشركة التي تتضمن معداتها ومصانعها التي تم تجديدها بالكامل منذ فترة قصيرة والأراضي التابعة لها يمكن أن تتحول لمنتجعات سياحية أو سكنية وفقاً لهذه العروض، كما لم تضمن للعمال حق استمرارهم في العمل، وتجعل مصير 4000 عامل «علي كف عفريت». وتضيف أن هناك بندا في العروض المقدمة من كلتا الشركتين، «كِلوجز» الأمريكية وشركة «أبراج» الإماراتية ينص علي أحقية الشركات في التصرف في أسهم «بسكو مصر» بالبورصة بعد ستة أشهر فقط من تاريخ التعاقد. ويتضمن العرضان بنوداً بأحقية الشركة المشترية في دمج شركة بسكو مصر مع أي من شركاتها، بل وإحدي الشركتين تتحدث عن أنها تنوي بالفعل دمجها مع شركاتها، كما تعتزم إستصدار قرار من الجمعية العمومية بشطب الشركة من البورصة نهائيا بل وذكرت صراحة أنها ستحتفظ بالشركة لمدة تتراوح من 3 إلي 5 سنوات وبعد ذلك ستبيعها، ومعني قرارها بأنها ستحولها لشركة مغلقة وغير مسجلة في البورصة، ما يعني إلغاء الرقابة المجتمعية علي الشركة. كما أن إحدي الشركتين ذكرت صراحة في عرضها أنها ستمول الصفقة عن طريق قرض من أحد البنوك المصرية وستسدد أقساطه من أرباح شركة بسكو مصر، أي أنها لا تمثل أي إضافة لاقتصاد البلد ولا وجود لفكرة تدفق استثمارات أجنبية لمصر لأنها في الأصل تقترض من مدخراتنا. وتوضح أنه تم خصخصة هذه الشركة منذ فترة طويلة، وأصبح غالبية الملاك من المؤسسات المالية وصناديق الاستثمار التي لا يعنيها غير الربح بغض النظر عن الحفاظ علي الصناعة والإنتاج. وللأسف أخذت الحكومة ممثلة في هيئة الرقابة المالية موقفاً سلبياً من قضية بيع الشركة، باعتبار أن 80% من الأسهم تتبع القطاع الخاص. ولكن في الحقيقة أن الحكومة معنية تماما بكل ما يحدث، فعلي وزارة الصناعة أن تتصدي لكل ما يواجه الصناعات المصرية بغض النظر عن مالكها. تتابع: وزارة القوي العاملة يقع في صميم عملها الاهتمام بالعاملين بالشركة فهم سواء يعملون بقطاع عام أو خاص تحت مسئوليتها خاصة عندما يكون هناك خطر يهددهم وأسرهم، ووزارة الاستثمار التي تتحدث عن تنمية الاستثمار يجب أن تتدخل عندما يكون هناك استثمار سيقوم علي تفكيك بنية إنتاجية أو استخدام مدخراتنا وأرباح الشركة في السداد، ولا يجوز أن ترفع الحكومة يدها من هذا الأمر بحجة أنه ملكية خاصة إذا كان الأمر يتعلق بشركة صناعية مصرية واستثمارات تدخل البلد. وتأسف العنتري للغاية من إشراف مكاتب قانونية مصرية علي كتابة هذه العروض وتوثيقها بحجة أن القانون المصري لا يجرم الاشتراك في صياغة هذه العروض، ولكن كيف لا يشعر هؤلاء المحامون بالخزي من أنفسهم بعد أن نفذوا هذه العروض، فمن العار عليهم أن يسمحوا بها من الأساس. ويري الدكتور عبدالخالق فاروق مدير مركز النيل للدراسات الاقتصادية أن الأسباب الحقيقية وراء بيع الشركة هي أنه حتي اليوم سواء وزير الاستثمار أو وزير الصناعة أو رئيس الوزراء لديهم نفس الأفكار ونفس التحيزات الاجتماعية المعادية للقطاع العام والملكية العامة ومرتبطون بمصالح المستثمرين الأجانب والعرب الذين يعدون أقرب لكونهم سماسرة أكثر منهم مستثمرين، وهؤلاء يشكلون بؤرة لتحطيم الإدراك الاقتصادي للدولة المصرية. ويؤكد أن وزير الاستثمار متخصص في أعمال البورصة والأوراق المالية وليس له علاقة بما يحدث في الاستثمار، ووزير الصناعة ليس إلا رجل أعمال كان يتاجر مع سامح فهمي في البترول، والجوهر في الموضوع أن دولة مبارك مازالت تحكم البلد والذي سيدفع ثمن هذا هو الرئيس السيسي لأنه المسئول عن اختيار من يعاونه من مسئولين. ويستكمل: وهناك حل للحد من خصخصة شركات القطاع العام وهو أن القائمين علي إدارة الدولة يجب تغييرهم لأن مدركاتهم السياسية وتحليلاتهم الاجتماعية لا تصلح بالمرة للتعامل مع الأزمات فهم يتجهون إلي نفس المخطط الأمريكي منذ وقت كيسنجر والذي اتفق فيه مع السادات علي تفكيك شركات القطاع العام، وقد التزم بها السادات وأكملها مبارك من بعده، وجاءوا هم ليستكملوا مسيرة مبارك، والحل الوحيد هو إعادة تشكيل حكومة جديدة تعيد فلسفة العمل الاقتصادي وتعيد هيكلة الاقتصاد المصري ورد الاعتبار للقطاع العام. ويري عبدالخالق أنه لا يوجد أي أغراض خفية وراء بيع هذه الشركة ولكن هؤلاء الأشخاص يبيعون الشركة لأنها معادية أيديولوجيا وفكريا لكلمة قطاع عام وهم مرتبطون بمصالح خفية لرأسماليين ومستثمرين محليين وأجانب حتي وإن كانوا لا يتقاضون عمولات وهذا مستبعد تماما. ويري أنه عند الحديث عن بيع شركة «بسكو مصر» الناجحة يجب ألا نغفل أنه كان هناك 194 شركة قطاع عام تم بيعها وكانوا كلهم ناجحين جدا، فقد دمروا صناعة الزيوت والغزل والنسيج وسماد أبو طرطور وغيرها الكثير، فكل هؤلاء ليسوا رجال دولة أو مستثمرين ولكنهم سماسرة.