العرض الخاص لفيلم فلومينا جودي دانش .. تنافس علي الأوسكار بدور من أهم ماقدمته للشاشة لم يعد يفصل بيننا وبين إعلان جوائز الأوسكار، إلا القليل جدا من الأسابيع، وبالطبع تتزايد حدة التكهنات والتوقعات، وإن كانت المقدمات تبرهن علي كثير من الظلم والغُبن الذي تعرضت له أفلام جميلة ونجوم ماكان يمكن تجاهلهم إلا عمدا ولأسباب غير منطقية، فكيف لعاشق للسينما أن يغفر لأكاديمية الفنون والعلوم "المانحة للأوسكار" خطيئة استبعاد فيلم «اندفاع» للمخرج روان هوارد، وكيف يمكن قبول أن تخلو قائمة المرشحين لجائزة أفضل ممثل، من اسم يواكين فونيكس؟؟ بل كيف يمكن احتمال فكرة أن تنافس إيمي آدمز، بأدائها الباهت المتواضع، كلاً من ميريل ستريب، وكيت بلانشيت، وساندرا بولاك، وجودي دانش في قائمة الترشيحات لأفضل ممثلة؟؟ علي كل الأحوال، يبدو أن الظلم عادة بشرية، يندر أن تفلت منها أغلب أنشطة الحياة، وهناك دائما مساحة من التجاوز تظهر بين الحين والآخر، لتؤكد لنا أن العدل الكامل قيمة لن ندركها في هذا العالم! وعلي أي حال فلنمعن النظر لنصف الكوب المليان، لنتأكد أنه مليان حقا! قد تكون فرصة جودي دانش، في نيل الأوسكار هذا العام تساوي عشرين بالمائة، لكن يكفيها، أنها من هذا النوع من الممثلات التي يمتلئ سجلها بالأدوار العظيمة، سواء لعبت أدواراً رئيسية أو مساعدة، وقد حصلت حتي الآن علي ستة ترشيحات للأوسكار، وفازت بها عام 1998 عن فيلم شكسبير عاشقا، كأفضل ممثلة مساعدة! وهي مرشحة هذا العام في فئة أفضل ممثلة عن فيلمها الرائع فلومينا إخراج ستيفين فريرز، ولولا وجود كيت وينسليت كمنافسة قوية ، لايشق لها غبار بدورها الرائع في فيلم "بلو جاسمين" لكانت جودي دانش هي الأحق بأوسكار هذا العام! فلومينا، هي سيدة أيرلندية تقترب من السبعين، عاشت تجربة مريرة في سنوات مراهقتها، حيث وقعت في غرام شاب، ونتج عن علاقتهما، طفل غير شرعي، وحتي تلك النقطة، أو تلك التفصيلة من الحكاية ، تبدو حياة فلومينا"جودي دانش" قد تتشابه مع ملايين النساء مثلها في أزمنة مختلفة، ولكن ما يجعل من هذه التفصيلة أو تلك القصة أو الحادث، حكاية مختلفة تحتمل أن يقوم عليها فيلم جميل حقا،هو التفاصيل الكثيرة المتشعبة التي حدثت بعد ذلك، الفتاة فلومينا، التي أنجبت طفلا غير شرعي، لم تجد ملجأ لها ولطفلها إلا ديراً كاثوليكياً،تشرف عليه مجموعة من الراهبات المتحفظات، وتكتشف الفتاة، أن الدير يقوم بإيواء فتيات في مثل ظروفها، ولكن هذا لايتم لوجه الله والمسيح، ولكن لأن راهبات الدير يقمن ببيع أطفال الخطيئة، للأثرياء الذين حرمهم الله من نعمة الإنجاب! وفي واحد من أجمل مشاهد الفيلم ،تفاجأ "فلومينا" بسيارة فاخرة تأتي للدير وتصطحب طفلها ، بعيدا وللأبد، دون أن يتسني لها أن تودعه! هل يمكن أن تنسي الأم طفلها، ولو مر علي غيابه خمسون عاما ؟ نصف قرن كاملة مرت علي هذا الحدث ، وذاكرة فلومينا تستعيد هذا المشهد القاسي، طفلها وهو يغيب عن عينيها في سيارة أنيقة لعائلة أحد الأثرياء، حملت ابنها إلي أمريكا ليعيش هناك بعيدا عن حضنها وعينيها، وعندما تسأل في عذاب راهبات الدير لماذا فعلتن بي هذا، تكون الإجابة كان عليك أن تدفعي ثمن خطيئتك!! إذن الله يغفر ويسامح ولكن من يتحدثون باسمه لايغفرون ! ولكن الحكاية لاتنتهي عند هذه النقطة ،بل هي في الحقيقة محطة الانطلاق، أما أحداث الفيلم الذي كتب له السيناريو ولعب دور البطولة ستيف كوجان، عندما يلتقي الصحفي السياسي مارتن سيكسميس، بفتاة أيرلندية تخبره بقصة والدتها، التي لاتزال تبحث عن ابنها الذي غاب عن عينيها وتم بيعه لأسرة أمريكية منذ خمسين عاما! الفيلم هو رحلة بحث عن الابن، في معظم الأساطير الإغريقية يخرج البطل باحثا عن شيء، أو ساعيا لتحقيق شيء، وأثناء رحلته يعيد اكتشاف ذاته أو حقيقة الكون، هنا في فلومينا، يعيد الكاتب السياسي الذي يهتم بحالة السيدة التي تبحث عن ابنها، علاقته بكل معتقداته، فهو من هذا النوع الذي لايولي اهتماما كبيرا، بزيارة الكنيسة أو أداء الطقوس الدينية، إنها مسائل لاتشغل باله، ولكنه يتعلم من السيدة التي ضاع عمرها بحثا عن ابنها ، قيمة التسامح والمغفرة، ويتعلم أيضا أن الحياة قد تغلق في وجهك باباً ولكنها حتما سوف تفتح لك أبواباً، أما "فلومينا" التي اكتشفت أن ابنها الذي تبحث عنه قد توفي من فترة قصيرة، فهي تصر علي تكملة الرحلة، بحثا عن حقيقته، لتتعرف كيف قضي سنواته الخمسين وهو بعيد عنها، وأي نوع من الرجال كان، أما الأهم من كل ذلك، فهو سعيها لمعرفة هل كان يسأل عنها؟ هل فكر مرة في العودة إلي مسقط رأسه ليعرف من هي أمه؟ هل غفر لها أن تركته يباع أمام عينيها ولم تفعل شيئا، أسئلة كثيرة ،كانت إجاباتها كلمات متناثرة من هنا وهناك ، ولكنها في النهاية وصلت لرسم صورة قريبة لما كان عليه حال ابنها الغائب! وكان عليها أن تعود مرة أخري من حيث بدأت القصة ،إلي الدير الذي احتضنها وهي في سن المراهقة، لتتساءل ويتساءل معها الكاتب الصحفي رفيقها في الرحلة لماذا أخفوا عنها أي معلومات يمكن أن تقودها إلي ابنها، لتنعم بوجوده أثناء حياته، ويكون الرد القاسي، كان عليها أن تتحمل نتيجة خطيئتها!! الفيلم ليس حكاية ميلودرامية، مكررة، ولكنه نقد لاذع عن حياة بعض من يعتبرون أنفسهم في مكانة أعلي من البشر، ويحاسبون الناس علي خطاياهم بينما هم يقترفون خطايا أشد بشاعة وفحشاً! الممثل وكاتب السيناريو ستيف كوجان يلعب دورا معقدا ومركبا بسلاسة وعفوية، وينتقل من حدة الإلحاد إلي نبل التسامح، بعد رحلة طويلة قضاها مع سيدة مسنة، كانت له بمثابة الأم، حتي أنه كان علي استعداد بالتضحية بفكرة تقديم كتاب عن مأساتها، ولكنها كانت من شجعته علي إصدار الكتاب، الذي يمكن أن ينقذه من الفشل والإحباط الذي يعاني منه! فقد اكتشف هو الآخر مناطق في نفسه لم يكن ليعرفها!