أكتب في الساعة الثانية إلا خمس دقائق من بعد ظهر أمس الأول. منذ 44 عاما بالضبط، باليوم، والساعة، والدقيقة.. كانت 222 طائرة قتال مصرية تعبر سماء قناة السويس شرقاً نحو أهدافها في سيناء، وكان أكثر من ألفي مدفع يطلق 175 دانة في الثانية الواحدة علي حصون خط بارليف، وكانت طلائع جنود خمس فرق مشاة تحمل قواربها علي طول جبهة القناة من بورسعيد إلي السويس، تندفع إلي صفحة المياه حاملة السلاح والذخائر، تجدف نحو الشاطئ الشرقي وتزأر بهتاف: »الله أكبر« يدوي إلي سدرة المنتهي. تلك كانت لحظة مصر، وساعة العدو، ويوم الله. يومها.. كنت طفلاً في أسرة مهجرة، تقيم منذ ست سنوات في مدينة الزقازيق، بعد أن أجبرها العدوان علي ترك مدينتهم الإسماعيلية، تحت هدير القصف، وعويل الغارات ووحشية القتل، ومرارة الهزيمة. كانت سيناء أسيرة، وكانت مدن القناة خاوية، تبكي حالها علي أطلال ركام وبقايا الأشجار المحترقة، كانت مصر تلعق جراحها، وتتأهب لوثبة الانقضاض في هذا اليوم الموعود، لتستعيد الأرض، وتسترد معها الكرامة. اليوم.. أكتب من العاصمة الإدارية الجديدة. أجلس في بهو تحفة سياحية معمارية لا نظير لها في بلادنا تطل علي بحيرات صناعية وتحوطها الحدائق من كل جانب.. هذا الصرح «الماسة كابيتال» هو ثمرة جهود رجل يعمل في صمت هو اللواء محمد أمين رئيس هيئة الشئون المالية للقوات المسلحة، ومعه نخبة من رجال العمل والإنجاز. وعلي امتداد البصر أمامي في العاصمة الجديدة تطول مبان وترتفع، ويتسع عمران وينتشر، وتمتد طرق ومرافق وخدمات، علي أرض، كانت منذ أقل من عامين رمالاً في بحر رمال. الحمد لله، الذي وهب لنا رجال الحرب والبناء، وقيد لنا النصر في معارك القتال والنماء. • • • بعد عدوان 1967.. قال الجنرال موشيه ديان وزير الدفاع الإسرائيلي للصحفيين مفاخراً: «حدود إسرائيل تمتد من القنطرة إلي القنيطرة».. أي من مدينة القنطرة شرق علي شاطئ القناة، إلي مدينة القنيطرة في هضبة الجولان السورية. وفي مساء السادس من أكتوبر.. أمسك الرئيس السادات صاحب قرار العبور قلمه وكتب برقية قصيرة إلي شريكه في الحرب الرئيس حافظ الأسد: «مبروك القنيطرة.. نحن في طريقنا للقنطرة». كانت القوات السورية قد اقتحمت القنيطرة، وكان رجال الفرقة الثانية عشرة بقيادة العميد أركان حرب فؤاد عزيز غالي يتأهبون لاقتحام القنطرة شرق، ونجحوا في تحرير هذه المدينة في يوم الاثنين الثامن من أكتوبر الذي استطاع فيه رجال الفرقة الثانية بقيادة العميد أركان حرب حسن أبوسعدة إحباط الهجوم المضاد الإسرائيلي وتدمير اللواء المدرع (190) وأسر قائده العقيد عساف ياجوري. هو نفسه ذلك اليوم.. الذي خرج فيه ديان وكان لايزال وزيراً للدفاع، يغالب دموعه أمام الصحفيين يتحدث عن يوم الاثنين الحزين لإسرائيل، ويقول: إنها حرب ثقيلة بأيامها ودمائها، بينما أبرقت رئيسة الوزراء جولدا مائير للرئيس الأمريكي نيكسون مستنجدة: «أنقذوا إسرائيل». • • • أكثر ما أعتز به في حياتي الصحفية أنني التقيت عدداً كبيراً من قادة حرب أكتوبر ورجالها الأبطال، واقتربت من بعضهم. لم تسنح الأقدار لي بشرف الالتقاء بمشير حرب أكتوبر أحمد إسماعيل علي القائد العام للجيش المظفر الذي رحل عن عالمنا بعد عام واحد من الحرب، بعد مشوار مشرف في العسكرية المصرية، بدأه منذ تخرج في الكلية الحربية عام 1938، كأول دفعته التي ضمت الزعيم جمال عبدالناصر والرئيس الراحل أنور السادات. ولم تسمح لي الظروف بلقاء الفريق سعد الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة في معركة العبور. لكنني حظيت بشرف لقاء المشير محمد عبدالغني الجمسي رئيس هيئة عمليات الحرب، والمشير محمد علي فهمي قائد قوات الدفاع الجوي والفريق حسني مبارك قائد القوات الجوية واللواء إبراهيم فؤاد نصار مدير المخابرات الحربية واللواء سعد مأمون قائد الجيش الثاني واللواء عبدالمنعم خليل خلفه في قيادة الجيش بعد مرضه، واللواء عبدالمنعم واصل قائد الجيش الثالث. تشرفت بمعرفة قادة الفرق القتالية اللواء حسن أبوسعدة (الفرقة الثانية) اللواء فؤاد عزيز غالي (الفرقة 18)، اللواء عبدرب النبي حافظ (الفرقة 16)، اللواء يوسف عفيفي (الفرقة التاسعة)، اللواء إبراهيم عبدالغفور العرابي (الفرقة 21)، اللواء عبدالعزيز قابيل (الفرقة الرابعة). حاورت هؤلاء القادة العظام، وغيرهم من قادة الألوية المقاتلة، العقيد صفي الدين أبوشناف، العقيد محسن شنن، العقيد أحمد صلاح عبدالحليم قائد معركة حصن أورليك، العقيد محمد الفاتح كريم بطل معركة جبل المر. وتأثرت كثيراً ببطولات رجل فارقنا منذ 4 أعوام هو العقيد عادل سليمان يسري قائد اللواء (112) الذي بلغ برجاله أعمق نقطة في سيناء، وفقد ساقه بدانة مدفع دبابة، ثم حملها بذراعه وهتف أمام رجاله: «تحيا مصر» ودفنها في الرمال، وأمسك حفنة منها يكتم دماءه ليواصل القتال. أعتز بأنني التقيت واقتربت من المشير حسين طنطاوي، قائد الكتيبة (16) وبطل معركة المزرعة الصينية، والرجل الذي تحمل بشرف وإخلاص أمانة مسئولية البلاد، بجدارة سيذكرها عنه التاريخ. أفخر أيضا بأنني التقيت بمقاتلين مجندين أبطال، أمثال محمد المصري صائد الدبابات الذي دمر 32 دبابة إسرائيلية، ومحمد العباسي أول من رفع العلم علي الضفة الشرقية للقناة في يوم السادس من أكتوبر. سمعت من نسور أكتوبر الأبطال حملة نجمة سيناء ونجمة الشرف مثل الرائد محمد وفائي والنقيب حسن محمد حسن والنقيب نصر موسي قصص بطولات الفداء والتضحية لزملائهم الشهداء الذين جادوا بأرواحهم الغالية، ثمناً رخيصاً لتحرير الأرض، ومنهم البطل إسماعيل الإمام الذي أسقط 8 طائرات إسرائيلية، والبطل عاطف السادات الذي أصيبت طائرته، وفضل الشهادة علي أن ينزل بها أسيراً في أيدي العدو، ليفاخر بأنه أوقع أخا الرئيس المصري في الأسر، والبطل صبحي الشيخ الذي أصيبت طائرته فوق مطار رأس نصراني بشرم الشيخ، فوجهها كالصاروخ نحو الطائرات الرابضة علي الممر ليدمر خمس طائرات معادية، ويسجل له رجال الاستطلاع المصري هتافه وهو يتلو الشهادة: «وما رميت إذ رميت ولكن الله رمي». • • • النار والدماء والبارود، تحفر علاماتها علي وجوه المقاتلين الذين خاضوا الحرب، وحققوا النصر، أمد الله في أعمارهم. تنير محياهم شموخاً وكبرياء وطنياً، وتضيء نفوسهم إخلاصاً وتواضعاً وإنكاراً للذات، وإيثاراً لرفاق السلاح وإعلاء لتضحيات زملائهم الشهداء. وقبل كل ذلك.. تهدي الذكريات بصائرهم إلي تفاؤل لا يغيب بمستقبل زاهر لبلد، لم تكسر الهزيمة إرادته، فعبرها وانتصر. ولم يتغلب طيور الظلام علي عزيمته، فأزاحهم ليعود نور الشمس يشرق بالأمل. • • • هنا في العاصمة الإدارية الجديدة.. تجولت في رفقة نخبة من رجالات مصر، منهم اثنان من رجال أكتوبر، خاضا الحرب شباباً أخضر القلب فولاذي الهمة، ومازالا يعطيان فكراً وعملاً وإخلاصاً في سبيل الوطن هما الفريق عبدالعزيز سيف الدين رئيس الهيئة العربية للتصنيع واللواء محمد أمين رئيس هيئة الشئون المالية للقوات المسلحة ومعهما تفيض ذكريات أيام القتال والنصر، يشاركهما المهندس طارق قابيل وزير التجارة والصناعة، بشذرات مما سمعه من والده البطل عبدالعزيز قابيل. أري هنا عبوراً آخر، في ذكري يوم العبور. عبوراً إلي مصر جديدة، تبني مستقبلاً كان من قبيل الأحلام، في زمن قياسي لم نسمع عنه إلا في الأساطير. بعد عام وبضعة شهور، سوف تنتقل الوزارات إلي هنا، وتجتمع الحكومة هنا، وينعقد البرلمان هنا، ويدير رئيس الجمهورية شئون الحكم من هنا. وبعد أقل من ثلاث سنوات.. سيصبح قلب العاصمة الجديدة، مركزاً إقليمياً للمال والأعمال بناطحات سحاب لمقار كبريات البنوك والشركات العالمية. • • • في الأيام المقبلة، نواصل احتفالاتنا بالذكري الرابعة والأربعين لنصر أكتوبر، بانضمام قطع بحرية جديدة إلي الأسطول المصري، وبإعلان مفاجآت سارة في قواتنا الجوية الباسلة، ليزيد جيشنا من قدراته علي صون مكتسبات النصر ومقدرات البلاد ومصالحها الحيوية والدفاع عن أمنها القومي. ذلك جنبا إلي جنب.. مع تدشين مشروعات جديدة تنهض بالوطن وترتفع بمعيشة أبنائه، وتوسع من آفاق العمران علي خريطة مصر. المجد لشهداء مصر في معارك تحرير الأرض وحماية أمن البلاد.. والدعاء إلي الله أن يجعل أيامنا عبوراً بعد عبور. سن القلم رغم كل ما تحقق من إنجازات في هذا العام علي صعيد علاقات مصر الخارجية، يبقي النجاح الهائل الذي حققه جهاز المخابرات العامة المصري في ملف المصالحة الفلسطينية أهم إنجاز سياسي مصري علي الإطلاق في السنوات الأخيرة. القضية الفلسطينية عادت من جديد إلي دائرة الضوء، بعد أن توارت خلال السنوات التي أعقبت الربيع العربي، وأظن أن المصالحة وعودة حكومة الوفاق الوطني الفلسطيني إلي غزة عنصران أساسيان في قطع الذرائع أمام استئناف جهود السلام. تحية خالصة للوزير خالد فوزي رئيس المخابرات العامة ومعاونيه الذين يعملون في صمت. إعلان الفاتيكان عن وضع مسار رحلة العائلة المقدسة بمصر علي خريطة الحج المسيحي، أحد إنجازات زيارة البابا فرانسيس إلي مصر ولقائه بالرئيس السيسي في القاهرة، وتوجتها زيارة وزير السياحة يحيي راشد إلي الفاتيكان الأسبوع الماضي ناقلا رسالة من الرئيس إلي البابا. الكرة الآن في الملعب المصري لاستثمار إعلان الفاتيكان عالميا، وتهيئة مناطق المسارات لاستقبال أعداد كبري من السياح الدينيين لزيارتها بعد شهور معدودة. السياحة الدينية كانت موضوع مؤتمر مهم نظمته محافظة جنوبسيناء الأسبوع قبل الماضي. أظن فكرة إنشاء «الحرم الرابع» في منطقة جبل التجلي الذي كلم الله نبيه موسي عنده وتجلي بنوره عليه، سوف تفتح مجالاً واسعاً لتشجيع هذا النوع من السياحة في سيناء الذاخرة بالمقدسات لكل الأديان السماوية. هذه الفكرة طرحتها من قبل علي وزير الأوقاف د.مختار جمعة ووزيري السياحة السابق والحالي ومحافظ جنوبسيناء اللواء خالد فودة. أعتقد أن الخطوة الأولي لابد أن تكون من الدولة لتشجيع مجتمع الأعمال السياحي علي الاستثمار في هذا المزار المقدس. لا أدري لماذا سارعت مصادر مسئولة إلي نفي أنباء ترددت عن قرب رفع أسعار السجائر!! أتفهم بقاء أصناف السجائر الشعبية في أسعارها الحالية دون زيادة لتجنب إضافة مزيد من الأعباء علي المدخنين محدودي الدخل، لكني أدعو إلي زيادة أسعار السجائر الأخري المستوردة، فمن يدفع ثلاثين جنيهاً ثمناً لعلبة سجائر ويدخن علبتين يومياً، لن تضيره كثيراً أن يدفع 35 جنيهاً ثمناً للعلبة الواحدة، أو أن يقلل معدل تدخينه. وفي الحالتين ستكسب الدولة إما من العائد المادي المباشر، أو العائد غير المباشر الناتج عن الحد من الأضرار الصحية علي المدخن. بالمناسبة.. كاتب السطور من المدخنين. غداً تبدأ عملية التصويت علي منصب مدير عام منظمة اليونسكو. السفيرة مشيرة خطاب الوزيرة السابقة لشئون الأسرة والطفل، هي واحدة من أقوي 3 مرشحين للمنصب من بين ثمانية تقدموا للترشح. معها في المنافسة أودري أزولاي الوزيرة الفرنسية السابقة، والمرشح الصيني كيان تانج. كلنا يأمل فوز السفيرة مشيرة خطاب صاحبة السجل المشرف التي تحظي بدعم أفريقي واضح. لكن إذا لم يحالفها النجاح، فلن ينتقص ذلك من مشوارها الحافل، ولا من كون مصر صاحبة أعرق حضارة في التاريخ. كل التمنيات لها بالتوفيق.