توفيت سيدة بسيطة في قريتنا مؤخراً بعد أن أوصت بأن يكون "العزاء علي المقابر".. وكل ما طلبته هو الدعاء بالرحمة.. موقف حكيم من امرأة أُمية لا ينسجِم فقط مع صحيح الدين ولكنه يتجاوز ذلك إلي الحرص علي ألا تكون وفاتها "ميتة وخراب ديار"!!.. وذلك يذكرني بما حكاه لي صديقي المرحوم عصام خلف رئيس التحرير السابق للنشرة العربية لوكالة رويترز قبل نحو عشرين عاماً، إذ قال إن الأحوال في قريته "ميت ابو حسين" مركز ميت غمر - دقهلية، انقلبت رأساً علي عقب بعد أن تولي حكم القرية عمدة من حملة المؤهلات العليا.. حيث قاد الرجل حملة للتخلص من الأمراض الاجتماعية والعادات والتقاليد الضارة التي مازالت ترزح تحت نيرها معظم القري والمدن المصرية مثل ختان البنات والمغالاة في المهور واللجوء للشعوذة وضاربي الودع!!.. لاحظ العمدة الجديد أن العزاء في قريته تحوَّلَ إلي مباريات في السفه والتفاخر يتنافس فيها أهل الميت في إطالة ليالي العزاء وإقامة أفخم السرادقات وجلب أشهر المقرئين ومد الموائد العامرة حتي تحولت المآتم إلي ما يشبه الأفراح!!.. وعندما قال لمَن حوله إنه يجب التصدي لهذه الظاهرة السلبية، أبلغوه بأنها مهمة مستحيلة وربما تتسبب مساعيه لتغيير عادات وتقاليد راسخة منذ مئات السنين، والتي ستفشل حتماً، في فقدانه منصب العمدة!!.. ولكن الرجل لم يستسلم أو ييأس بل استحضر مقولة الفيلسوف اليوناني أرسطو "مَن لم ينفعه العلم لا يأمن ضرر الجهل" وبدأ في عرض فكرته علي شباب القرية المتعلم لإقناعهم بها أولاً ثم مطالبتهم بمساعدته في إقناع أهاليهم.. وأخيراً.. تكللت مساعي العمدة بالنجاح وتم الاكتفاء بتلقي العزاء علي المقابر.. بل تم تطوير المبادرة إلي دعوة أهل الموتي خاصة إذا كانوا من الميسورين للتبرع بالمبالغ المخصصة للعزاء أو جزء منها لمساعدة الفقراء وتمويل المشروعات الخيرية بالقرية!!.. هذا نموذج رائع ومُلهِم لحاكم متعلم أصر علي الانتفاع بعلمه فغير وجه الحياة في نطاق سلطته.. وهو يذكرني بحوار صاخب مع إخوتي وأقاربي جري في "دوارنا" بالصعيد قبل عدة أشهر.. كان الحديث يدور بشكل عام عن التبذير في مظاهر العزاء وفاجأتهم برغبتي في ألا يُقام عزاء عندما تحين ساعتي وأن يكون "العزاء علي المقابر".. ثارت ثائرتهم وقال أحدهم "إنت عاوز تقصر رقبتنا وتصغرنا قدام الناس"؟!!.. وهنا أدركتُ أنني لمستُ عصباً حساساً لديهم.. فالمظاهر والشكليات جزء مهم من حياة الناس في قريتنا وغيرها.. ومراسم الأتراح والأفراح غالباً ما تكون فرصة للتباهي بثراء العائلات وعراقتها بصورة فجة.. وفي قريتنا بالذات، شهدت مراسم العزاء تطوراً محموداً بمرور الزمن وانتشار الوعي والتعليم.. عاصرتُ ليالي العزاء عندما كانت سبعاً وعلمتُ أنها كانت قبل ذلك إحدي عشرة ثم تقلصت إلي تسع ليالِ.. ولم يقتصر الأمر علي طول ليالي العزاء بل كان أهل الميت ينحرون الذبائح ويقدمون الأكل والشاي والقهوة والسجائر لجميع المعزين من الأقارب والأغراب!!.. وفي مطلع الثمانينيات تقريباً، حدثت طفرة وصارت ليالي العزاء خمساً للرجل وثلاثاً للمرأة.. ولا عزاء للأطفال!!.. والآن.. ومع زيادة تعقيدات الحياة وضيق ذات اليد وتقدم وسائل الاتصال بما يسهل إبلاغ المعزين علي الفور لحضور الجنازة والمشاركة في التشييع، أصبح العزاء علي المقابر أقرب للشرع والعقل والتحضر.. وأخيراً.. أنهيت الحوار في الدوار بالقول: "لا عزاء إلا علي المقابر وهذه وصية واجبة التنفيذ.. وسأنشر ذلك علي الملأ كي أعفيكم مقدماً من الحرج والعتب".. وعندما علمت زوجتي بما دار قالت: "وأنا مثلك لأن مصروفات العزاء أحق بها الأهل والفقراء"!!.. وكلي أمل أن نسمو جميعاً فوق كل الترهات والآفات الاجتماعية وأن ننتفع بالعلم حتي لا يصيبنا ضرر الجهل كما قال أرسطو!!..