كانت واشنطن تتابع مجريات الموقف فى مصر عن كثب، وكانت السفيرة الأمريكية السابقة «مارجريت سكوبى» تبعث بتقارير متتابعة إلى وزارة الخارجية عن تطورات الأحداث فى البلاد، ترددت واشنطن فى حسم موقفها والمطالبة برحيل مبارك، فى البداية ظل الموقف يتأرجح خوفاً من نجاح مبارك فى إجهاض الثورة على نظامه، ثم سرعان ما حسمت أمرها. فى الثامن والعشرين من يناير، وبعد تأزم الأوضاع وانهيار الشرطة، أجرى الرئيس أوباما اتصالاً بالرئيس حسنى مبارك استمر لأكثر من نصف ساعة حثه فيه على ضرورة إجراء إصلاحات جذرية فى البلاد، احتد الرئيس مبارك فى حديثه، أكد أنه ماضٍ فى الإصلاحات وأنه لا يحتاج إلى إملاءات من أحد، قال إن الجيش قادر على إعادة الأمن والاستقرار بالبلاد دون أن يطلق رصاصة واحدة!! كانت واشنطن قد طالبت الحكومة المصرية فى بيان علنى بالابتعاد عن استخدام العنف ضد المتظاهرين، ومطالبة الرئيس باتخاذ خطوات حقيقية وملموسة للإصلاح كانت لغتها حادة وعنيفة! وفى هذا اليوم تحديداً حسمت جماعة الإخوان المسلمين موقفها دفعت بعناصرها إلى الميادين، سعت إلى تصعيد الموقف، اشتعلت الحرائق فى أعداد كبيرة من أقسام الشرطة، وبدأت السجون تفتح أبوابها عنوة ليهرب إلى الشارع أكثر من 23 ألف مسجون. لم تتوقف واشنطن عن إصدار إنذاراتها المتتالية التى تطالب ببدء المرحلة الانتقالية فى مصر فوراً، كانت الكلمات غامضة، لكنها تعنى ممارسة المزيد من الضغوط ضد نظام الرئيس مبارك مما دفع وزير الخارجية الروسى إلى أن يعلن فى المقابل أن بلاده ضد فرض وصفات وإنذارات خارجية على السلطة والشعب المصرى. وبعد خطاب مبارك فى الأول من فبراير الذى استقبله الكثيرون بحالة من الارتياح، كان هناك اتصال ساخن بين مبارك وأوباما احتد فيه الرئيس المصرى على نظيره الأمريكى وطالبه بالتوقف عن التدخل فى الشئون المصرية، بل وهدده بالكشف عن الأسباب الحقيقية للموقف الأمريكى ضد نظامه، وبعد هذا الاتصال مباشرة لم يكترث البيت الأبيض بل راح يعلن أن انتقال السلطة فى مصر حان الآن وأن الشعب المصرى لا يريد سماع الخطابات ولكن يريد الأفعال..!! لم تكن تهديدات مباراك للرئيس أوباما فى هذا الوقت تنطلق من فراغ كان مبارك يعرف قبل ذلك بسنوات وتحديداً منذ عام 2004 أن واشنطن تسعى إلى إسقاطه بأى وسيلة وترى أنه لم يعد مناسباً لطبيعة المرحلة الجديدة ومتطلباتها. لقد رفع اللواء عمر سليمان تقريراً على جانب كبير من الخطورة إلى الرئيس مبارك فى بدايات عام 2010 تضمن الأسباب التى قدمتها الاستخبارات الأمريكية إلى الرئيس أوباما، التى تبرر فيها ضرورة إسقاط مبارك وتغيير نظام الحكم فى مصر وهذه الأسباب هى: أولاً: رفض مبارك إقامة قواعد عسكرية للطيران على البحر الأحمر بهدف: 1- مواجهة تنامى قوة جماعة «الحوثيين» فى اليمن والمدعومين من إيران وما يشكله ذلك من إمكانية تهديد الملاحة فى مضيق باب المندب الاستراتيجى. 2- مواجهة خطورة القرصنة الصومالية وإمكانية تحولها لظاهرة قرصنة إقليمية ودولية. 3- حماية حركة وحرية الملاحة فى البحر الأحمر. واشنطن قررت الاستغناء عن مبارك وبدأت التخطيط منذ عام 2004 4- مواجهة ظاهرة السلفية الجهادية المحتملة فى شمال السودان بعد تقسيمه. ثانياً: رفض مبارك إرسال قوات مصرية إلى العراق لتحل محل القوات الأمريكية بعد انسحابها من العراق. ثالثاً: رفض مبارك تقسيم السودان واستبدال ذلك باتحاد كونفيدرالى أو فيدرالى؛ حرصاً على أمن السودان ووحدة شعبه وأراضيه وخوفاً من وصول «فيروس» التقسيم إلى مصر. رابعاً: رفض مبارك للمطالب الأمريكية التى أوصت بممارسة الضغوط على الرئيس الفلسطينى محمود عباس للذهاب إلى المفاوضات مع إسرائيل فى ظل استمرار سياسة الاستيطان ودون شروط. خامساً: رفض مبارك لخطة أمريكية تستهدف إيجاد حماية دولية فى المجرى الملاحى لقناة السويس حال تعرضه لأية مخاطر من تنظيم القاعدة. سادساً: رفض مصر إدانة إيران منفردة لنشاطها النووى فى المحافل الدولية وإصرار الرئيس المصرى على إخلاء منطقة الشرق الأوسط بأسرها من أسلحة الدمار الشامل بما فيها «إسرائيل». سابعاً: رفض مبارك لخطة توسيع قطاع غزة ومنح الفلسطينيين مساحة 720كم داخل سيناء لإقامة دولة فلسطينية عليها، كما ورد فى وثيقة «غيوروا إيلاند»، والحصول على مساحة مقابلة لها فى صحراء النقب. ثامناً: رفض الرئيس السابق فى عام 2008 وبعد العدوان الإسرائيلى على غزة أن تكون مصر ضامنة لأى اتفاق بين إسرائيل وحماس خشية تحمل مصر مسئولية ذلك أمام المجتمع الدولى حال نقض أى من الطرفين للاتفاق. يومها وبعد أن قدم اللواء عمر سليمان هذا التقرير إلى الرئيس مبارك حذر من أن الخطة الأمريكية ماضية فى طريقها، وأن الاتصالات التى تجريها الإدارة الأمريكية مع جماعة الإخوان المسلمين بدأت تأخذ منحى جاداً منذ توقيع اتفاق الدوحة عام 2002 بين د.يوسف القرضاوى والسيد طارق رمضان نيابة عن الإخوان مع مارك مولين ومارتن إنديك عن الإدارة الأمريكية الذى يتضمن التزام جماعة الإخوان باحترام اتفاقات كامب ديفيد حال وصولها إلى السلطة فى مصر. وقد عزز من هذا الموقف مشاركة جماعة الإخوان المسلمين فى العراق باثنين من قادتها فى الحكومة التى شكلها المندوب الأمريكى الجنرال «بول برايمر» فى العراق فى أعقاب الغزو الأمريكى عام 2003. كانت كل المؤشرات تؤكد أن واشنطن تمضى نحو إسقاط الحكم فى مصر غير أنها فوجئت بالثورة الشعبية العارمة وسعت إلى محاولة القفز عليها، وهو ما يعكس حالة الارتباك التى عاشتها الإدارة الأمريكية فى الأيام الأولى من الثورة. بعد أحداث موقعة الجمل احتدت لهجة الإدارة الأمريكية لمواقف الرئيس المصرى وهو ما دفع بايدن نائب الرئيس الأمريكى أوباما بأن يبلغ نظيره عمر سليمان يوم الخميس الثالث من فبراير، بأنه لم يعد أمام الرئيس مبارك من خيار سوى التنحى سريعاً والبدء فى إجراءات انتقال السلطة، وراحت هيلارى كلينتون وزيرة الخارجية تدلى بتصريح جديد تدعو فيه الحكومة المصرية إلى البدء فوراً فى محادثات لتسليم السلطة إلى المعارضة. كانت واشنطن قد بدأت فى تحريض أطراف إقليمية ودولية لممارسة ضغوطها على الرئيس مبارك، وفى هذا اليوم تحديداً أصدر قادة بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا بياناً مشتركاً أعربوا فيه عن قلقهم البالغ من جراء تدهور الأوضاع فى مصر باستخدام العنف ضد المتظاهرين أو التشجيع عليه. وفى السابع من فبراير أدرك الرئيس مبارك أن واشنطن قد حسمت أمرها نهائياً، وأن أى تنازلات سيقدمها لن تجدى وأن الأوضاع على الساحة تزداد تعقيداً غير أنه كان متشبثاً بالأمل حتى اللحظة الأخيرة. فى هذا الوقت أدلى الرئيس الأمريكى باراك أوباما بحديث إلى قناة «فوكس نيوز» الأمريكية فى السابع من فبراير أكد فيه حرفياً أن مصر لا يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه قبل بدء الاحتجاجات ضد نظام الرئيس المصرى حسنى مبارك، وقال إن وقت التغيير قد حان وأن الشعب المصرى يريد الحرية ويريد انتخابات حرة نزيهة وحكومة تلبى مطالبه. انطلقت الشائعات من كل مكان بعد هذا التصريح تقول إن الرئيس المصرى سوف يغادر للعلاج فى أحد المستشفيات الألمانية كسبيل للخروج من الأزمة الراهنة، وفى اليوم التالى كان اللواء عمر سليمان يعقد اجتماعاً داخل القصر الجمهورى مع رؤساء تحرير الصحف المصرية، وقد سألته يومها لماذا لا يغادر مبارك البلاد إلى ألمانيا ويترك المصريين وحالهم، يومها رد علىّ اللواء عمر سليمان أمام الجميع بقوله «انت راجل صعيدى وتعرف أننى لا أستطيع أن أطلب من الرئيس مبارك ذلك من الناحية الأخلاقية». كانت الحكومة الألمانية فى هذا الوقت قد نفت على لسان المتحدث باسمها وجود أى طلب رسمى أو غير رسمى من مصر بشأن هذه الإقامة، ولذلك لا يوجد سبب يجعل الحكومة الألمانية تعقب على هذه القضية بشكل افتراضى. كان مبارك يرفض بإصرار مغادرة البلاد، بل عندما طالبه اللواء عمر سليمان فى أعقاب موقعة الجمل بالسماح لزوجته وزوجتى نجليه والحفيدين ومعهم نجله علاء بالمغادرة إلى خارج البلاد خوفاً من تطورات الأوضاع رفض بكل شدة وقال «لن أغادر أنا أو أى من أفراد أسرتى أرض البلاد، ليس لدينا شىء نهرب منه». وعندما قال له عمر سليمان فى الثامن من فبراير إن هناك مخاوف عليك وعلى الأسرة من جراء الزحف الجماهيرى المتوقع إلى القصر الجمهورى فى المليونية المعلن عنها يوم الجمعة القادم، رد عليه مبارك بالقول «سنبقى فى القصر الرئاسى حتى لو دخل المتظاهرون وذبحونا جميعاً لن نهرب». وعندما قال له عمر سليمان لكن الأمر يمكن أن يتحول إلى مجزرة رد عليه مبارك بالقول «لن أسمح بأية مجازر مهما فعلوا فينا»!! عندما سمعت هذا الكلام من اللواء عمر سليمان أبديت دهشتى وحيرتى من الأمر غير أننى وبعد مضى أكثر من عام على نجاح الثورة كنت أجلس فى أحد الفنادق الكبرى مع مجموعة من الأصدقاء وبينهم رجل أعمال شهير «أ»، وعندما تطرقنا فى الحديث معاً إلى الساعات الأخيرة لحكم مبارك فى القصر الجمهورى فوجئت بأحد الحاضرين يقول لى إن كل ما قلته صحيح، أبديت دهشتى عندما قال لى إنه يعرف ما هو أخطر، صمت ثم قال أمام الحاضرين «أنا نجل أحد كبار قادة الحرس الجمهورى لقد قال لى والدى إن مبارك التقى بعدد من كبار قادة الحرس يوم الخميس 10 فبراير، حيث كانت الدعوات قد انطلقت للزحف إلى القصر الجمهورى وعندما سألوه.. ما العمل؟ قال لهم حرفياً إذا دخل المتظاهرون إلى القصر وأخذونى أنا وأولادى وفعلوا فىّ أى شىء لا تطلقوا رصاصة واحدة عليهم». أبدى الحاضرون دهشتهم وتساءلت.. ألم يعلم الرئيس بالشهداء الذين سقطوا منذ بداية الثورة، وكذلك آلاف الجرحى.. وتساءلت إذن كيف قتل هؤلاء؟ غير أن الشهادة التى أدلى بها اللواء عمر سليمان والمشير حسين طنطاوى أمام محكمة جنايات القاهرة التى كانت تحاكم الرئيس السابق جاءت لصالح الرئيس وليست ضده!! بعد الإعلان عن تسلم المجلس العسكرى لمهام السلطة وإدارة شئون البلاد كانت واشنطن تراقب الموقف، وقد دفعت بالعشرات من رجال الاستخبارات الأمريكية الذين كانوا يتابعون الأحداث ويرفعون التقارير. عام 2010 عمر سليمان يرفع تقريراً للرئيس عن الأسباب التى تقف وراء الموقف الأمريكى فى الثامنة والنصف من مساء الجمعة 11 فبراير أطل على شاشة التليفزيون اللواء محسن الفنجرى عضو المجلس الأعلى للقوات المسلحة ليبث إلى الجماهير البيان الثالث للمجلس الأعلى الذى تضمن ثلاث نقاط: «إن المجلس الأعلى يعلم مدى جسامة الأمر وخطورته أمام مطالب شعب مصر العظيم لإحداث تغييرات جذرية فى البلاد وأن المجلس الأعلى يتدارس هذا الأمر وسيصدر بيانات لاحقة تحدد الخطوات والإجراءات والتدابير التى ستتبع. إن المجلس الأعلى يؤكد أنه ليس بديلاً عن الشرعية التى يرتضيها الشعب. إن المجلس الأعلى يتقدم بكل التحية والتقدير للرئيس محمد حسنى مبارك على ما قدمه فى مسيرة العمل الوطنى حرباً وسلماً وعلى موقفه الوطنى فى تفضيل المصلحة العليا للوطن. إن المجلس الأعلى يتوجه بكل التحية والإعزاز لأرواح الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم فداء لحرية وأمن بلدهم، ولكل أفراد شعبنا العظيم». قدم اللواء محسن الفنجرى التحية العسكرية لأرواح الشهداء، اهتزت مشاعر المصريين، علت الهتافات فى الميادين، أقام الشباب صفحة على الفيس بوك تحية للواء محسن الفنجرى ضمت مئات الآلاف فى أيام قليلة، ولم يتوقف الناس كثيراً أمام التقدير والتحية التى نقلها اللواء الفنجرى باسم المجلس الأعلى للرئيس السابق على موقفه الوطنى وتفضيل المصلحة العليا للوطن..!! كان المجلس الأعلى يريد أن يقول فى هذا البيان «إن مبارك سلم السلطة بسلاسة ورفض إدخال البلاد إلى ساحة العنف ورضخ لإرادة الجماهير ومطالبها المشروعة.. غير أنه بعد أيام قليلة من تنحى مبارك كان هناك اجتماع لثلاثة من أعضاء المجلس العسكرى بعدد من رؤساء التحرير والإعلاميين، وقال أحدهم «لقد فوجئنا بحجم الفساد الذى ارتكبه النظام السابق». لقد كان الفساد والاستبداد اللذان سادا البلاد خلال العقد الأخير تحديداً من 2000 - 2010 الدور الأكبر فيما شهدته البلاد من أحداث والثورة على النظام، لقد ترك مبارك شئون الحكم لنجله وزوجته وحولهما مجموعة من رجال الأعمال ورموز الفساد الذين دفعوا البلاد إلى حافة الهاوية. كانت أمريكا تنتظر هذه اللحظة حاولت القفز على الثورة فى بداياتها وفشلت، كان الالتفاف الشعبى حول الثوار كبيراً، بدأ سقف المطالب يتزايد حتى وصل إلى «الرحيل». مضى مبارك لكن واشنطن لم تتوقف عن محاولاتها، إنها تريد السيطرة وتنفيذ مخطط الفوضى «الخلاقة» وصولاً إلى التقسيم فى إطار ما يسمى بمخطط «الشرق الأوسط الجديد.. وكانت ترى فى هذا الوقت أن الوقت قد حان ليتولى الإسلاميون وتحديداً جماعة الإخوان المسلمين شئون الحكم فى البلاد، إذ ترى أنهم البديل الذى لا يمكن أن يكون سبباً فى انقسام المجتمع وسيادة الفوضى. فى 30 يونيو 2011 كشفت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون النقاب عن أن هناك لقاءات قد تمت فى السابق بين الإدارة الأمريكية وجماعة الإخوان المسلمين للتنسيق. لقد كانت كلينتون تقصد فى هذا الوقت هذا الاجتماع المهم الذى جرى فى «إسطنبول» فى 27 مايو 2011 والذى جرى بحضور كل من: ستيفن كابس نائب مدير جهاز الاستخبارات الأمريكى «سى آى إيه» الذى كان مسئولاً قبل ذلك عن الشرق الأوسط، ثم مسئول العمليات بالجهاز. إليزا مانينجهام بوللر -عضو الاستخبارات الدولية- التى سبق أن عينت فى منصب المدير العام لدائرة الأمن الداخلى فى وكالة الاستخبارات البريطانية عام 2002. د. كمال توفيق الهلباوى المتحدث السابق باسم التنظيم العالمى لجماعة الإخوان المسلمين فى الغرب والرئيس المؤسس للرابطة الإسلامية فى لندن. د. همام عبدالرحيم سعيد الذى انتخب مراقباً عاماً لجماعة الإخوان فى الأردن فى 30 أبريل 2008. وقد جرى الاتفاق فى هذا الاجتماع على التزام الإخوان مجدداً بالاتفاقات الموقعة مع الدول الأجنبية خاصة إسرائيل فى الوقت الذى تحدث فيه «ستيفن كابس» عن ثقة الإدارة الأمريكية فى قيادة الإخوان المسلمين لمصر فى الفترة القادمة وحفظ أمن إسرائيل من الإرهابيين والتوصل إلى حلول تنهى الأزمات الناشبة بين حماس وإسرائيل. ورغم أن د. كمال الهلباوى نفى هذا الكلام فى مقابلة له مع ال«بى بى سى» فى 30 يونيو 2011 فإن أحد مسئولى الاستخبارات الأمريكية عرض فى برنامج «الجهات الأربع» على قناة «الحرة» ثلاث ورقات تتضمن محضراً للاجتماع السرى الذى جرى بين الإخوان والمخابرات الأمريكية فى إسطنبول فى 27 مايو 2011. كان الإخوان ماضين فى طريقهم، لقد أعدوا العدة منذ اليوم الأول للسيطرة على شئون الحكم فى البلاد، راوغوا المجلس العسكرى كثيراً كانوا يتحركون من خلف ستار لدفعه إلى تسليم السلطة فى أقرب وقت ممكن، حتى تتاح لهم فرصة الهيمنة من خلال انتخابات كان الجميع يدركون أنهم هم الأكثر تنظيماً ومن ثم سيحققون الفوز فى أول انتخابات قادمة، خاصة أن القوى الأخرى لا تمتلك التنظيم القوى ولا الإمكانات التى هى فى حوزة الإخوان. وفى 15 نوفمبر 2011 عندما أعربت الإدارة الأمريكية عن مراجعتها لسياستها حول الحركة الإسلامية وخصوصاً الإخوان وأنها سترضى بالنتائج التى ستسفر عنها الانتخابات المصرية وستتعامل مع الإخوان أو أى تيار سياسى يفوز فيها، أدرك الكثيرون أن واشنطن أعطت الضوء الأخضر للإخوان، وفى نفس الوقت أطلقت تحذيرا للمجلس العسكرى. لقد بدأت اللقاءات الأمريكية تتعدد مع قادة جماعة الإخوان كما أن الزيارات إلى مقر الجماعة فى المقطم لم تتوقف وكان السيناتور «جون ماكين» هو مهندس هذه اللقاءات جنباً إلى جنب مع السفيرة الأمريكية «آن باترسون». لم يكن ذلك هو الدور الوحيد للإدارة الأمريكية فى التعامل مع الأوضاع فى مصر، لقد كشفت د.فايزة أبوالنجا وزير التعاون الدولى السابق عن أن واشنطن ضخت إلى منظمات المجتمع المدنى الأمريكية والمصرية العاملة فى مصر ما قيمته مليار ومائتا مليون جنيه فى الفترة من فبراير إلى نوفمبر 2011 وأن هذه الأموال دخلت عن غير الطريق القانونى، وكان الهدف من ورائها إثارة القلاقل فى مصر. كان المجلس العسكرى يمتلك معلومات أكيدة حول هذه المخططات ولذلك أطلق يد الحكومة والجهات القضائية فى اتخاذ جميع الإجراءات القانونية وإغلاق مقرات المنظمات الأمريكية الثلاثة التى ثبت ضلوعها فى المخطط، وهى المعهد الديمقراطى القومى الأمريكى، والمعهد الجمهورى الدولى الأمريكى، وبيت الحرية «فريدم هاوس». لقد عرض أعضاء بالمجلس العسكرى أبعاد هذا المخطط خلال لقائهم بممثلين عن ائتلاف مجلس قيادة الثورة المصرية بعد خمسة أشهر من قيام الثورة، وكشفوا النقاب عن خطة تستهدف تقسيم البلاد جغرافياً. وأشار أعضاء المجلس إلى أنهم يمتلكون وثائق خطيرة تضمنت العديد من الخطوات لتحقيق هذا الهدف ومن بينها: - إحداث الوقيعة بين الشعب والشرطة لإغراق البلاد فى الفوضى. - إثارة الفتنة الطائفية والتحريض عليها، بهدف زعزعة استقرار البلاد. - استهداف الجيش المصرى والسعى إلى ضرب وحدته وإحداث الوقيعة بينه وبين الشعب. - التحريض على المظاهرات الفئوية وتعطيل الإنتاج وصولاً بالبلاد إلى حالة الإفلاس وتردى الحالة الاقتصادية. كان الجيش فى هذه الفترة يبدى قلقاً شديداً من التحركات التى كانت تشهدها البلاد والإصرار على إبقاء حالة الفوضى وصولاً لإسقاط الدولة، كان المخطط معلناً ولم يكن خافياً على أحد. فى 27 مايو 2011 أبلغ الأمريكان جماعة الإخوان تأييدهم للوصول إلى السلطة إنه ذات المخطط الذى أعلنت عنه كوندليزا رايس فى حديثها إلى ال«واشنطن بوست» عام 2005، حول الفوضى الخلاقة التى تقول «طالما أنه لا أمل فى التغيير فى الشرق الأوسط إذن فلتكن الفوضى هى وسيلة التغيير لخلق شرق أوسط جديد يدور حول الرؤية الأمريكية». وكانت كوندليزا ترى «أن الفوضى التى تفرزها عملية التحول الديمقراطى فى الشرق الأوسط فى البداية هى نوع من الفوضى الخلاقة التى ربما تنتج فى النهاية وضعاً أفضل مما تعيشه المنطقة فى الوقت الحالى!! كانت نظريتها مبهرة للرئيس الأمريكى جورج بوش، لقد كان مقتنعاً بحديثها أمام لجنة الاستماع فى لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس الأمريكى قبيل صدور القرار النهائى بتعيينها وزيرة للخارجية حيث قالت «إن أهم مشروع عندى هو التخلص من الحلفاء السابقين للولايات المتحدة والبحث عن حلفاء جدد بعد أن استهلكنا الحلفاء القدامى». منذ هذا الوقت كان بوش قد أعد العدة، نشر الفوضى فى العالم العربى، وبدأت عملية التنسيق مع الحكومة القطرية التى عقدت ما يسمى «بمنتدى المستقبل» فى الدوحة عام 2006 حيث اتهمه بعض المشاركين الذين انسحبوا ورفضوا الاستمرار فيه بأنه مؤامرة استخبارية تجرى تحت رعاية عراب المنتدى الرئيس الأمريكى الأسبق بيل كلينتون وبمتابعة خاصة من كوندليزا رايس. وكانت أكاديمية التغيير التى جرى تأسيس فرع لها فى الدوحة فى 6 سبتمبر 2009 وأشرف عليه هشام مرسى صهر د. يوسف القرضاوى هى التى أشرفت على منتديات الدوحة والتواصل مع النشطاء كما أنها أعدت ما يسمى بمشروع النهضة فى هذا الوقت وامتدت بنشاطها إلى أحداث شهدتها المنطقة العربية. كانت أكاديمية التغيير هى جزء من المخطط، لكن المخطط كان أكبر من ذلك بكثير، كان أبرز من عبر عنه هو الكاتب الإسرائيلى «ألوف بن» رئيس تحرير صحيفة «ها آرتس» الذى كتب مقالاً فى الصحيفة فى 25 مارس 2011 قال فيه «إن الخرائط التى رسمت للمنطقة العربية منذ نحو مائة عام، تشهد الآن إعادة تحديث لتظهر دول جديدة كجنوب السودان وكردستان وربما برقة فى شرق ليبيا وجنوب اليمن والإمارات، مع احتمال تقسيم السعودية بانفصال منطقة الحجاز عن مناطق البترول فى الشرق، كما تنقسم سوريا إلى دويلات سنية وعلوية ودرزية، وقال رئيس تحرير «هاآرتس» إن هذه الدول تشكلت دون رغبة مكوناتها وسيترك الآن الخيار لإعادة تعريف نفسها وقال إنه بقدر ما سوف يزداد عدد الدول فى المستقبل بقدر ما يكون أسهل على إسرائيل فى المناورة والتعامل معها، وقال إن الغرب مثل «إسرائيل» يفضل التعامل مع شرق أوسط ممزق ومنشغل بصراعات وتتقاتل أنظمته على عدة جبهات بما يعوق مشروع الوحدة العربية والإسلامية. كثيرة هى المقولات التى تنطلق والتحليلات التى عادت إلى مخطط إسرائيل فى الثمانينات وإلى خطة برنارد لويس التى اعتمدها الكونجرس عام 1983 والتى تستهدف تقسيم الوطن العربى ومن بينه تقسيم مصر إلى أربع دويلات طائفية وعرقية هى: دولة تمتد من سيناء إلى شرق الدلتا تحت النفوذ الإسرائيلى لتحقيق حلم إسرائيل من النيل إلى الفرات. دولة مسيحية تمتد من جنوب بنى سويف حتى جنوبأسيوط تتسع غرباً لتضم الفيوم ثم تمتد فى خط صحراوى عبر وادى النطرون الذى يربط هذه المنطقة بالإسكندرية وتتسع مرة أخرى لتضم أيضاً جزءاً من المنطقة الساحلية الممتدة حتى مرسى مطروح، وتكون عاصمتها الإسكندرية. دولة للنوبة وعاصمتها أسوان وتربط الجزء الجنوبى الممتد من صعيد مصر حتى شمال السودان لتلتحم مع دولة البربر التى سوف تمتد من جنوب المغرب حتى البحر الأحمر. دولة مصر الإسلامية وعاصمتها القاهرة وتضم الأجزاء المتبقية من مصر ويراد أن تكون تحت النفوذ الإسرائيلى أيضاً، إذ أنها تدخل فى نطاق «إسرائيل الكبرى» كما رسمها المشروع الصهيونى. كان ذلك هو المشروع وكان ذلك هو الهدف، ويبدو أن واشنطن وجدت ضالتها أخيراً، فراحت تساند الإخوان بكل قوة لأنها تدرك تماماً أن الفتنة ستبدأ بوصولهم للسلطة وممارستهم لشئون الحكم، فيحدث الانقسام وتحدث الفوضى وتنهار الأوضاع فى البلاد، ثم توجه أمريكا ضربتها بكل قوة للوطن بأسره بعد أن تكون قد أعطت ظهرها لجماعة الإخوان لانتهاء دورهم. بعد مرور عامين على الثورة وتضحيات الشباب الطاهر والدماء التى سالت فى الميادين وسقوط مئات الشهداء وآلاف الجرحى واختطاف الثورة من أصحابها الحقيقيين وإعادة إنتاج نظام جديد أكثر استبداداً وديكتاتورية من النظام السابق مدعوماً بتأييد أمريكى صارخ.. يبقى السؤال: هل يمكن إعادة قراءة الأحداث من جديد، لنعرف حقيقية المخطط وأبعاده والقوى التى كانت تدفع إلى الانهيار والفوضى، أم أننا سنبقى نكابر ونتشبث بالمواقف دون أن نراجع الماضى حتى نعرف كيف نحدد الطريق إلى المستقبل؟! لقد حذر مبارك فى تصريحاته وخطبه خلال الثورة من خطر الفوضى وقد حدث، ومن خطر سيطرة الإخوان وقد حدث، ولكنه نسى أو تناسى أن الفساد والاستبداد وتزوير الانتخابات والقهر الذى عاشته البلاد فى عهده كان هو السبب الأساسى وراء هذا الانفجار الشعبى الكبير..!!