ماذا لو تخيلنا أن سيدنا أبا ذر الغفارى، الزاهد الذى كرَّس حياته للدفاع عن الفقراء والمساكين، قد خرج من عمق القرون الغابرة ونقر بعكازه بين أقدام الشباب المحتشدين فى ميدان التحرير يدقون الهواء بأيديهم ويلهبونه بحناجرهم؟ ماذا يمكن أن يقول لأولئك الذين لا يرون الدين إلا بين «التقريش» و«التكريش»؟ وبماذا ينصح أو ينهر الذين يستدعون من النصوص والمأثورات ما يقرر الثراء الفاحش ويبرر العوز والفاقة؟ وما الذى سيطويه فى ورقة ناصعة كوجهه المفعم بالاطمئنان أو لحيته الشهباء ويرسله إلى الدكتور مرسى؟ اثنان ممن تخيلوا هذا لم يكتفيا بالشرود فى المستحيل بل ترجما الخيال إلى واقع فى مسرحية بديعة اسمها «أبو الثوار»، وهما المؤلف المبدع محمد حسين والمخرج القدير ياسر صادق، اللذان أخذا هذا النص المختلف من رائعة الشاعر السورى ممدوح عدوان الكبير «كيف تركت السيف؟» وقاد فريق التمثيل فيه الممثل الموهوب حلمى فودة، وقد أدوا جميعا ببراعة واقتدار، وسط امتزاج حروف كلامهم بألحان عذبة لكريم عرفة، وأشعار لخميس عز العرب، تردد صداها فى قاعة معهد الموسيقى العربية العريق؛ حيث تعرض المسرحية الآن. ولعل الكلمتين اللتين يقدم بهما المخرج والمؤلف عملهما هذا تنطقان بكل شىء من دون إيجاز مخل ولا إسهاب ممل، فالأول يقول: «إلى كل الثوار والأبطال نقدم أبا الثوار لنلتف جميعا حوله حتى يستكفى الفقراء ويأخذ الضعفاء حقهم من الأقوياء، ولنحذر جميعا؛ لأن القادم أخطر؛ فالجوع لا خلاق له». أما الثانى فيقول: «إن أردنا أن نرى أنفسنا الرؤية الواضحة فعلينا حتما أن ندقق النظر فى ماضينا ونراه الرؤية الصحيحة.. فتحية إلى كل نقطة دم سالت فى الحق وللحق، تحية إلى شهدائنا الأبرار. فيا سادتى، كونوا على هذا القدر، ولا تهنوا حتى تحققوا ما خرجتم من أجله، ولا تُخدعوا بقيادة ولا بريادة أو بعبادة لا رحمة فيها». تبدأ المسرحية بشباب يثرثرون عن الثورة، متحسرين على أنها لم تحقق أهدافها بعدُ، وعلى رأسها العدل الاجتماعى، وبينما هم سادرون فى حسرة مرة ينشق قلب المسرح عن رجل ورع يتوكأ على قطعة من فرع شجرة ندية، يتقدم إليهم بخطى ثابتة، ليخالطهم الحديث، متنقلين بين حاضر ميدان التحرير وماضى عثمان بن عفان، الذى ميز أهله وعشيرته على حساب أهل الكفاءة من المسلمين، وكذلك على حساب حد الكفاية، فزاد البطر واتسع على هامشه الفقر، فما مُتع غنى إلا بما أُفقر به فقير، ونسى الجميع قول الرسول الكريم: «كاد الفقر أن يكون كفرا» و«ليس منا من بات شبعانا وجاره جائع وهو يعلم». وترمز المسرحية بذكاء وإحكام إلى ما يجرى فى أيامنا تلك؛ فأبو ذر جاء فرحا بأحفاده الذين نزلوا بالملايين ليزيحوا الظلم والظلمات فوجدهم قد حبسوا أنفسهم فى الماضى واعتقدوا أن الأجداد أعلم منهم بزماننا هذا، فراح يحكى لهم عن الفساد الذى واجهه والاستبداد الذى تصدى له، وحقوق الفقراء التى كافح من أجلها وحده؛ لذا انبهر بأن الملايين توحدت على موقف واحد، ولا ينقصها الآن سوى أن تواصل نضالها حتى تنتزع حقوق الغلابة، التى لا يزال ينساها من جلسوا فى كراسى الحكم. وتنتهى المسرحية بأن يأتى الأولون إلى ميدان التحرير الذى يملأه الآخرون، ويحملوا معهم شعار الثورة المصرية «عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية.. كرامة إنسانية»، ليقدم أبوذر بحروف شجية تقية نابعة من صميم الشرع ومقاصده رسالة إلى الرئيس: لا تنسَ الفقراء الذين يزيدون مع كل مطلع شمس.