للإرهابى سحر عند الشعوب العاجزة. يبحث العاجز إذن عن «بطل» ينتصر عبره على هذا العجز.. بطل.. فتوة.. لص شعبى، كلها مسكّنات العاجز لمشاعر بالدونية والهزيمة. الشعور بالهزيمة طاقة محبوسة.. يفجّرها عادة القادر على اللعب بالعواطف ليصنع سلطته. هكذا.. عندما نشرت صورة شكرى مصطفى كانت صدمة كبيرة. لم يكن نجما من نجوم السينما أو بطلا من أبطال حرب أكتوبر التى انتهت أيامها قبل 4 سنوات.. ولا حتى رجل سياسة من الموديل الجديد الذى استبدله الرئيس السادات بالطواقم القديمة من رجال لعبد الناصر. كما أنه لم يكن مجرما من نجوم صفحات الجريمة فى الصحف.. سفَّاحا.. قاتلا أو بلطجيا أو زعيم عصابة من عصابات السرقة المسلحة. كان «بطلا» من نوع جديد. ملامحه لا تشبه النماذج السابقة. قاتل لكنه لا يشبه القتلة العاديين.. وزعيم عصابة، لكنها عصابة غير تقليدية.. إنه أمير «جماعة المسلمين» التى أطلقت عليها الصحافة اسم «التكفير والهجرة».. وصورته نُشرت عقب اغتيال الشيخ الذهبى وزير الأوقاف وقتها، وحوكم هو و5 من أعضاء التنظيم وحُكم عليهم بالإعدام. ابن موت.. هذا ما تقوله نظرة «أمير الجماعة» القادم من زمن مختبئ تحت السطح. بوهيمى لكن عكس موضة هذه الأيام من السبعينيات. ملامحه مخطوفة إلى شىء بعيد.. على وجهه حُفرت مشاعر غربة من نوع يشبه غربة الريفيين فى المدينة أو البدو فى قلب الحضارة الحديثة. لا تعطى صورته انطباعا بالإجرام التقليدى، على العكس توحى بالتعاطف مع شخص يقف على حافة الجنون.. يثير التعاطف والخوف معا. فى المحاكمة قال شكرى مصطفى: «خطتنا أصلا تقوم عل الانسحاب من هذه المجتمعات وقلبها رأسا على عقب إذا صح التعبير، حيث إننا لا نؤمن بسياسة الترقيع ولا نؤمن بتزيين الجاهلية بالإسلام »، إنه هنا وهناك، فى قلب المجتمع وضده، شكرى مصطفى ليس الأول لكن صورته كانت الأولى، ربما يكون صالح سرية بطل عملية الفنية العسكرية الشهيرة (1974) هو أول صورة غائمة عن أبطال يريدون قلب نظام الحكم والاستيلاء على السلطة.. لا لكى يحكموا فقط ولكن لنشر الدعوة أو تحقيق المجتمع الإسلامى. تلك الفكرة القنبلة التى أطلقها سيد قطب مثيرا كل جروح العجز فى «المستضعَفين» ونافخا فى مشاعر الاضطهاد، هو «الصورة النقية» لنبى التطرف الذى دفع حياته ثمنا لأفكاره.. تحولاته لم تعُد تهمّ سوى المثقفين.. هو من أوائل النقاد الذين اهتموا بنجيب محفوظ، وكتب عن رواياته، خصوصا «خان الخليلى». سيد قطب وقتها كان يريد أن يصبح أديبا. كاتبا بالمفهوم الحديث. وكتب سيرته الذاتية تحت عنوان «طفل فى القرية» بأسلوب قريب من «الأيام» سيرة طه حسين . أهدى سيد قطب سيرته المكتوبة بسذاجة إنشائية إلى صاحب «الأيام » طه حسين. قبل أن يتحول إلى نبى التطرف.. والقطيعة مع كل ما هو حديث. سيد قطب وُلد قبل نجيب محفوظ بسنوات قليلة. كلاهما كان فى طريقه ليكون مثقفا عصريا، لكن سيد قطب بعد صدمة أمريكا اكتشف أصولية نائمة، بينما أصبح نجيب محفوظ «صورة» للمثقف الحديث الباقية من تلال مزدحمة بالصور والشخصيات. وإذا سألت شخصا عاديا عن المثقف الذى يعرفه اليوم، فلن يتردد فى أن يذكر لك اسم نجيب محفوظ، والمهم هنا ليس ما يعرفه هذا الشخص عن أعمال كاهن الصنعة فى معبد الفن الروائى، لكن محفوظ هو رمز الأديب والمثقف فى مخيلة جماعية، لا تحتفظ فى ذاكرتها خلال العشرين أو الثلاثين سنة الأخيرة بأسماء مثقفين من النوع الذى ترك الساحة خالية أمام نماذج أخرى تلتزم بحدود علاقتها بالسلطة: محمد حسنين هيكل.. أو نماذج تعود إلى سلطة شفاهية تسيطر بقوة أسطورية من الدين: الشيخ محمد متولى الشعراوى.. هؤلاء هم نجوم الثقافة فى عصر الميديا الجبارة وحولهم يبدو غامضا نموذج المثقف الذى أفرزته جماعات العنف الدينى، ويخطو باتجاه العودة إلى تقاليد المؤسسات القديمة فى انتقال المعرفة من أعلى إلى أسفل. سيد قطب صورة خالدة لنبى التطرف الذى حول الهمّ الذاتى فى سجون عبد الناصر إلى خطاب متكامل تحول فيه الألم إلى رغبة فى الانتقام .. وجدت مرجعيتها فى أفكار أبى الأعلى المودودى فى الهند. صورة محفورة بخليط الاضطهاد والتضحية ودفع الثمن والاغتراب عن الواقع، إضافة إلى فكرة حامل رسالة الحق أو «الصحابى » المهاجر من مجتمعه فى سبيل دعوته صور قديمة مستوحاة من القصص الدينى، وتستمد فى شحناتها العاطفية على رصيد أبطال الدعوة الإسلامية الأولى، كما صورتهم السينما المصرية فى أفلامها عن الأيام الأولى لنشر الإسلام فى الجزيرة العربية. بعد الثورة، لماذا يحتاج شعب منتصر إلى ألعاب العاجزين؟