تلفت الصحفى الإنجليزى بيتر جيدنز حوله، ورمى بصره فأخذ الميدان كله فى مقلتيه، ثم دخل إلى شارع محمد محمود حتى وصل إلى المقهى الذى يواجه سنترال «باب اللوق» جلس على كرسى خشب قديم، ومد يده ليتأكد من وجود السلسلة الحديدية التى تربط الكراسى بعضها بعضاً حين جلس أول مرة هنا قبل ثلاث سنوات أطلق عليه «المقهى السجين»، ورآه يلخص كل ما يجرى حوله، ينظر إلى الجالسين على الكراسى يحتسون الشاى، ويسحبون الدخان الأسود من مباسم «الشيشة»، ويقول فى نفسه: «كلهم سجناء، مستسلمون لما هم فيه، مثل هذه الكراسى الخشبية المصفدة فى الأغلال». هذه المرة وجد الكراسى مكانها، حتى ذلك الذى حفر عليه فى صمت العام الماضى الحروف الأولى من اسمه الثلاثى، دون أن يراه أحد، بينما كانت الشمس تنحسر على البنايات مودعة المكان، وتاركة إياه لعباءة الليل، رمى بصره فوجد الحروف مكانها، مرشوقة على صفحة الكرسى، لكنها بهتت قليلا، كان الكرسى راكدا تحت النافذة الضيقة الصدئة، وهو الثالث من جهة اليمين، لم يكن أحد يجلس عليه، رغم أن كل كراسى المقهى تئن تحت الأجساد المنهكة، تقدم إليه ورمى جسده، ثم تحدث مع نفسه ساخراً: «أى مظاهرة تلك التى ستندلع من أجل التغيير، وكل شىء فى مكانه مع أن عقارب الساعة تتحرك إلى الأمام». جاءه النادل وحملق إلى وجهه وتذكره وقال له مازحاً: حمد لله على السلامة يا خواجة. فرد بلكنة مصرية تعلمها فى الجامعة الأمريكية قبل سنوات: إزيك يا محروس. كويس. ثم نظر إلى المنضدة القديمة متآكلة الجدران الموضوعة أمامه وقال: تشرب شاى؟ فهز رأسه قائلا: لا.. قهوة زيادة. التفت إلى يساره، فوجد عربات الأمن المركزى الخضراء متراصة على الجانب الأيمن لشارع المنصور، تتابع فى صمت كأنها توابيت ضخمة، أعاد بصره إلى فنجان القهوة، ثم ابتسم من جديد وقال لنفسه: «لا بد لهذا السلسلة الحديدية أن تمتد من هذا المقهى المعتقل إلى أول عربة من تلك العربات». ونكمل غداً.