يركض محمد الضو، بجوار سالم البنا، خلف الدشم الرملية، على أسوار معسكر الأحراش برفح، وقذائف الهاون تمر فوق رأسيهما، وتتساقط الشظايا على جباههما، وألسنة اللهب تعلو الرؤوس. يدور حوار بين الجنديين بصوت متهدج خوفا، عن الشهادة وحين يحل موعدها، على أيدي جماعات مسلحة تهاجم المعسكر يوميا.. يوم بعد الآخر تتحطم الدشم والأسوار التي يتوارون خلفها، وتبقى أنقاضها ومعها أنقاض نفوس متمسكة بالدفاع عن حدود الوطن، حطمتها مدافع وطلقات الجهاديين، ورغم المعاناة ما زالوا يقفون بإباء، وقد امتقع لون وجوههم بلون بدلتهم العسكرية السوداء. محمد الضو: وحدتي رمتني وخرجتني "رفت طبي".. ومستشفى المعادي قالتلي ملكش علاج تاني عندنا أيام وصدرت الأوامر بإخلاء المعسكر من القوات، "ضباط وعساكر"، بعد وصول معلومات عن اتجاه عناصر إرهابية باقتحام المعسكر وتصفية كل من فيه، لكن "الضو" وزملاءه رفضوا الانصياع للأوامر، وفضلوا البقاء لحماية الأرض، التي تربوا على أنها "عِرضهم"، لكن لم يمنحهم المعسكر الفرصة، ووصلت العربات لأخذهم بعيدا عن معسكر الأمن المركزي برفح إلى موقف العريش، ومنه إلى منازلهم في إجازة لمدة خمسة عشر يوما. ليلة المذبحة 18 أغسطس 2013، انتهت الإجازة، حزم محمد الضو حقيبته؛ استعدادا للعودة مرة أخرى، وإلى جواره والده يلح عليه بالبقاء أياما لحضور عرس شقيقه، لكنه أبى، فلم يعتاد الغياب عن الخدمة العسكرية طيلة سنتين قضاهما في معسكر الأحراش كقوة إمداد ينتقل من مكان لآخر.. قال محمد الضو بامتعاض ل"الوطن": "متعودتش أغيب عن الجيش ولو ليوم واحد"، وخرج يومها ليلتقي ثمانية عشر من عساكر قاربت خدمتهم على الانتهاء، بموقف عبود القريب من ميدان رمسيس؛ ليستقلوا سيارة أجرة جميعا إلى مدينة العريش. قبل التحرك بدقائق، يهاتف الضو وزملاؤه، الضابط محمد أنور: "يا فندم هيحل علينا الليل قبل مانوصل رفح، وحظر التجوال الساعة خمسة وأنت عارف، نبات ونيجي بكرة بدري" ليرد عليهم: "لازم تيجوا مفيش حاجة اسمها بكرة اتحركوا دلوقتي"، وتتحرك العربة في اتجاه سيناء، يمر الوقت وتقترب عقارب الساعة من الخامسة، حين يصلوا عند كمين الريسة، تتوقف السيارة ويترجل أحد الضباط باتجاههم، يخبره أحدهم بأنهم عساكر ضمن قوة معسكر الأحراش، وفي اتجاههم إلى وحدتهم، لكن يصر الضابط على عودتهم: "لف وأرجع تاني الضرب شغال ومينفعش تمشوا على الطريق وقت حظر التجوال". محمد الضو الناجي من مذبحة رفح الثانية تعود بهم السيارة مرة أخرى إلى موقف مدينة العريش، ويتصل الضو بالنقيب محمد صلاح من قوة معسكر الأحراش: "مدناش عقاد نافع كل كلامهم خليكوا قاعدين في الموقف.. لأ تعالوا ملناش دعوة"، وفي النهاية يستقر الأمر على المبيت داخل موقف العريش. يفترش الضو وزملاؤه الأرض، ويلقون بظهورهم المتعبة على حصير طالما جمعهم طيلة خدمتهم التي كانت دوما خارج حدود المعسكر، سواء في الأكمنة على الطريق في "الشيخ زويد وقسم أول العريش وقسم الشيخ زويد وقطاع شمال، وعلى النطاق الحدودي، وبورسعيد". أيام وربما ساعات تفصلهم عن الخروج للحياة المدنية، يراود كل منهم حلم المستقبل، وخططه لأيامه المقبلة بعدما أعطى للوطن سنتين من عمره في خدمته، سالم يتحدث مع الضو عن منزله الريفي بالمنوفية، وما يدخره من أموال لاستكمال بنائه، وإتمام عرسه وزيادة أرضه المترامية خلفه، الضو يسعى إلى السفر للخارج، الكويت أو ربما السعودية كانت الحل لأزمة وقوفه أمام لهب أحد أفران الخبز.. وحين حل الصباح كان القدر يخبئ لهم مصيرا جديدا لم يكن في خلدهم. محمد الضو: العسكري ملوش لزمة عند الجيش يموت يجي مائة غيره.. ووالده: مستشفى الهلال أوصت بتركيب مفصل صناعي بألمانيا في السادسة صباحا، ومع أول ضوء التف الجميع حول السيارات، جمعوا أمتعتهم، واتصلوا بالمقدم المسؤول عنهم بمعسكر الأحراش لإبلاغه بتحركهم: "المفروض كان الضابط يكلم قطاع العريش يبعلتنا قوة تأمين علشان إحنا عُزل من السلاح والطريق مش أمان، وده طبعا محصلش" يقول الضو عما كان يدور بينهم قبل دقائق من التحرك. في لقاء "أتباع شرع الله" تحركت سيارتان تحملان ثمانية وعشرين مجندا، ومرة أخرى توقفتا عند كمية "الريسة"، ويُسمح لهم بالعبور، ومنه إلى كمين "أبو طويلة"، والذي لا يسمح بمرور سوى العسكريين، أثناء التفتيش يرمق الضو والبنا عربات دفع الرباعي تمر من خلال الكمين ومن فيها يشير بأصابعهم ويلقون النظرات اتجاه عربات العساكر، عشر دقائق بعد عبور الكمين، وتعود تلك العربات مرة أخرى للظهور، ولكن تلك المرة محملة بعدد من الملثمين المسلحين. يوقّف الملثمون العربة الأولى، ويبدأون في القبض على زملائهم وتقيدهم من خلاف، وفي العربة الثانية "الضو والبنا" وباقي المجندين، وفي لحظات يتفقون على عدم إظهار هوياتهم الحقيقية، ومحاولة خدعاهم بهوية "عمال زيت"، دقائق ويترجل أحد الملثمين عريض البنية غليظ الصوت، كما يصفه "الضو"، يدفع باب السيارة بكل عنف ويطالبهم بالخروج وأيديهم فوق رؤوسهم، ويقول له "الشهيد" البنا: "إحنا عمال زيت ورايحين رفح"، فيرد الملثم قائلا: "كدابين أنتوا عساكر الأحراش"، يسأله الضو متأففا: "أنتوا مين وعايزين إيه"، يخبره بإيماء إلى السماء "إحنا تبع شرع الله وجايين ننفذ أمر الله". هنا تتوقف ذاكرة الضو عن استرجاع الحادث؛ بسبب الطلقة النارية التي سكنت رأسه فأحدثت له شرخا بالجمجمة، ما تسبب له في فقدان جزئي للذاكرة، ويقول: "مش فاكر بعد كده حصل أيه كل اللي فاكره إني صحيت بعد 3 أيام ومش عارف مين حولي"، وإلى جواره والده الذي قال ل"الوطن"، "الرصاصة صنعت شرخا بالرأس سبب له مشكلة في الذاكرة". عمر جديد يجلس حمدي الضو، والد "محمد"، أمام التليفزيون يفاجئ بصورة نجله بين الجنود المضرجين بالدماء على رمال الصحراء، ينتفض بحثا عن الهاتف ويقول: "محدش قالنا ابنكوا عايش ولّا ميت ولا حد اتصل بينا وقالنا ابنكوا مصاب، اتصلنا بالضابط محمد أنور وقالنا متجوش هو جايلكوا في مستشفى المعادي". 8 ساعات قضاها حمدي وزوجته وأولاده في انتظار "محمد"،: "يا ترى هيجي حي، أم جثمان"، وأخيرا تصل سيارة الإسعاف وتفتح أبوابها ويخرج منها "محمد" محمولا عن النقالة والدماء تغطي وجهه، والأب والأم متلهفين على الابن العائد من المذبحة وكل آمالهما أن يكون ما زال على قيد الحياة.. 9 أيام لازم فيها محمد الفراش داخل غرفة العناية المركزة، ووقت خروجه قال الأطباء لوالده: "إحمد ربنا ابنك انكتب له عمر جديد، كويس أنه عايش". خرج محمد من العناية المركزة وظل في غيبوبة لأيام، كل ما يجري على لسانه وهو مغشيا عليه، حسب رواية والده: "قتلوني وقتلوا أصحابي.. ضربونا بالنار على الأرض، موتوني.. قتلوا البنا بالرصاص قدام عيني"، تمر الأيام ويفيق محمد من غيبوبته ولا يتذكر أي شيء، حتى والده ووالدته، لم يعد يتذكرهما ولا يعرفهما ولكن مع الوقت تعود له الذاكرة جزئيا. ست رصاصات وإزازة مكركروم "إصابة بكسر في عظام الجمجمة، وكدمات بالمخ، واضطراب بدرجة الوعي نتيجة طلق ناري بالرأس، وكسر مضاعف بعظمة العضد اليسرى، مع إصابة بالعصب الكعبري، وجرح متهتك بالفخذ الأيسر، وكسور متعددة بعظام القدم، مع جرح مفتوح وغائر بالظهر".. ذلك كان تقرير مستشفى المعادي العسكري عن حالة محمد الضو: "همّا خيطوني ورموني بره المستشفى" قالها الضو وهو يعدل من وضع يده اليمنى التي أصابها العجز بعد تفتيت الرصاصة الثانية لعظام "الكوع". وبإيماء إلى جرح غائر بقدمه اليسرى: "ده بقى جرح من الرصاصة اللي دخلت من رجلي وخرجت، والدكتور في المستشفى يقولي ابقى حط عليها إزازة مكركروم وهي تخف".. "بيقولوا محتاج مفصل طبي في إيده بيتعمل بره مصر يا دكتور" كلمات ساقها والده للدكتور المسؤول عن متابعة حالته وما كان منه إلا أن يقول وهو متجه لباب الحجرة "هو عجزه كدة ملوش علاج تاني ادعو له بالشفا"، وبعد شهر كان الضو خارج المستشفى وكلمات الطبيب له "ابقى تعالى بعد شهر نغيرلك على الجرح". أيام ويتصل أحد الضباط من رفح، ويطالب محمد بالإمضاء على قرار رفت طبي "استبعاد من الخدمة، لعدم قدرته على اتمام المهام العسكرية، وهو ما يعني أنه خارج القوات المسلحة، ووزارة الداخلية، وينقل إلى العلاج بأحد مستشفيات التأمين الصحي، دون تحمل أي نفقات أو مسؤولية علاجه: "طالبوني بالإمضاء على ورقة لجنة الرفت الطبي علشان يبقى كدة بره العسكرية ومتعالجش تاني في مستشفى المعادي، وأترمي في أي مستشفى حكومي تبع التأمين الصحي وكدة لا ليّ معاش ولا علاج عندهم". رفض الضو استلام الشهادة، وبعد شهر وفي مستشفى المعادي في أحد الزيارات الطبية، أخبره الأطباء بأنها المرة الأخيرة، وأنه "ملوش علاج عندنا"، كما قال الطبيب، ويرد الأب "مش قادر يمشي على رجله محتاج علاج طبيعي يا دكتور" ويعاود الطبيب "هو عجزه كدة ملوش حاجة عندنا تاني". الضو يقاضي السيسي وعدلي منصور للحصول على معاش واستكمال علاجه ورغم تنصل المستشفى العسكري من تحمل مسؤولية سفره للخارج على حساب بلاده للعلاج، تقول مستشفى الهلال الحكومي في توصية طبية بإمضاء الطبيب المعالج وخاتم النسر وخاتم المستشفى بعد الكشف على محمد: "يلزمه استكشاف العصب الأوسط وإصلاحه، وعمل مفصل صناعي للكوع"، وهو نفس ما أكده أحد الأطباء بعيادة خاصة، مشيرا إلى أن الكوع الصناعي يستلزم السفر إلى ألمانيا، حسب رواية والده، وحسب ما قدمه ل"الوطن" من أوراق رسمية. خرج محمد الضو إلى الجمهور ليعرض حالته ويشتكي من إهمال الدولة له، بأحد البرامج الشهيرة بالتليفزيون لمدة لم تتعد العشر دقائق، ومع أحد أشهر مقدمي البرامج، يتحدث فيها عن إهمال الدولة، ليخرج اللواء محمد إبراهيم وزير الداخلية بعد الحلقة ويعد محمد بمقابلة شخصية ليحل مشكلته، ثم يتصل العميد علاء محمد، أحد القيادات بالوزارة ويطالبه بالذهاب للوزارة لمقابلته، ويخبره الإعلامي البارز: "لقد صدق الفريق أول عبد الفتاح السيسي بالموافقة على علاجك على نفقة الدولة". وفي اليوم التالي للقاء التليفزيوني، يتجه محمد مستندا على ذراع والده، ليقابل العميد علاء محمد ليقول بكل هدوء: "لو محتاج علاج هنعالجه بس مش بكلامي ولا كلامك.. بكلام الدكاتره"، ويعقب على ذلك والده "مفيش دكتور في الجيش ولا في الداخلية يقدر يتحمل مسؤولية قرار علاجه ولا سفره للخارج، واللي قابلونا في الداخلية عارفين كده كويس".. حتى يلتقي محمد ووالده بوزير الداخلية ليسلمه كأسا نظير بطولته ويخرج مرسلا إلى اللواء عادل فتيحة مسؤول العلاقات الإنسانية بالوزارة، ليسلمه ألفين جنيه، ألف جنيه من المحافظ حسب قوله، والآخر من الوزارة، ليصبح كل ما تحصل عليه كأس وألفين جنيه. يعود محمد إلى مستشفى القوات المسلحة، ولكن لم يجد تصديق الفريق أول السيسي على علاجه على نفقة القوات المسلحة، كما صرح الإعلامي البارز، ولم يجد أي قرارات بعلاجه، ويقول محمد "وحدتي رمتني.. وعملولي رفت طبي وعلاج مفيش وشغل مفيش ومعاش مفيش، حكومة بلدي اللي خدمتها سنتين مش عايزة تعالجني، أشحت طيب ولّا أروح لمين، وفي الآخر بيقولولي إبقى هتلنا فواتير الأدوية اللي بتخدها وإحنا نصرفهالك". "العسكري هيموت وهيجي مائة واحد غيره، العسكري ملوش لزمة في الجيش، يجي يخدم الوطن ولمّا يخلص خدمة يرميك بقى مهما حصلك".. كلمات يقولها محمد وكل خلجاته تتحرك، وتحمر وجنتيه، ويستطرد "الجيش مش راضي يعالج عسكري كان بيخدم على سلاح دعم وكان بيقف 12 ساعة خدمة مش عايز يعالجني لأنه بالنسبة لهم موتي كان أوفر، لا شهيد خد حقه ولا ناجي خد حقه"، والأب يردد "طب نروح فين ونعمل إيه". وفي نهاية الأمر تقدم الضو بطلبات لرئيس الجمهورية، ورئيس مجلس الوزراء، ووزير الدفاع، ووزير الداخلية، ووزير التأمينات، ورئيس لجنة المعاشات الاستثنائية؛ لطلب معاش استثنائي؛ تعويضا لما تعرض له من إصابات أثناء خدمته العسكرية. وفي النهاية لجأ محمد الضو إلى رفع دعوى قضائية ضد وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي، وآخرين، مطالبا فيها بصرف معاش استثنائي له بعد أن حرمته الإصابات التي لحقت به من القيام بأي عمل. علاء عبدالتواب، مدير الوحدة القانونية بالمركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، قال ل"الوطن"، إن المركز أقام دعوى قضائية بمجلس الدولة، وفي انتظار نظر الدعوى خلال الأيام المقبلة، تطالب بإلزام وزير الدفاع بدفع معاش استثنائي ومساواة "الضو" بمصابي 25 يناير، علاوة على تحمل نفقات العلاج بالخارج. وأشار عبدالتواب، إلى وجود نص قانوني ينصّ على تكريم وصرف معاش استئنائي وفقًا لقانون الشرطة، التي تتحمل جزءًا من مشكلة محمد الضو بصفته أنه كان مجند أمن مركزي، علاوة على تحمًل وزارة الدفاع أيضًا جزءًا من المشكلة لأداء الخدمة العسكرية التي تدخل في اختصاصات القوات المسلحة. وينتظر عبدالتواب مبادرة من الفريق أول عبدالفتاح السيسي، وزير الدفاع، ينهي بها مشكلة "الضو" بدون انتظار الحكم القضائي، والذي يؤكد أنه قادم لا محالة لصالح الضو لأن قضية واضحة المعالم.