كان من أعظم ما فعلته القيادة المصرية (سواء السياسية أو العسكرية) أنها حققت انتصارا حربيا مهما بتدمير المدمرة الإسرائيلية «إيلات» بعد أقل من 120 يوما من هزيمة الخامس من يونيو 1967، فأولا أعلنت للداخل قبل الخارج أن جيشها قادر على النصر، وثانيا أن ما حدث فى يونيو هو الأمر العارض الاستثنائى، وليس الدائم المعتاد، خاصة أن عملية تدمير إيلات كانت غير مسبوقة فى العمليات الحربية البحرية (لم تتكرر حتى الآن)، وثالثا أن مصر بدأت بالفعل عملية تحرير أراضيها، وهى العملية التى عرفت فيما بعد بحرب الاستنزاف، ولمن لا يعرف فقد توسلت إسرائيل فى ذلك اليوم (21 أكتوبر 1967) للجيش المصرى من أجل وقف القتال والمساعدة فى انتشال جثث ضحايا المدمرة، وهو الأمر الذى منح جيش مصر معنويات مذهلة مكنته فى المضى قدما نحو الاستعداد لمعركة التحرير الكبرى، والتى تمت بالفعل فى مثل هذا اليوم قبل أربعين عاما بالتمام والكمال. لم يكن نصر أكتوبر 1973، مجرد نصر عسكرى تقليدى، بل كان بحق كاشفا عن قدرات فريدة فى الأداء العسكرى، ليس فقط فى عبور المانع المائى أو إزالة الساتر الترابى، ولا حتى فى تحطيم خط بارليف المنيع، بل كانت القدرات الحقيقية فى تطوير عمليات الهجوم والمناورات التكتيكية (بما فى ذلك مساعدة الجبهة السورية) وهى جرأة استراتيجية لم يستطع العدو فهمها ولا كيفية مواجهتها، خاصة فى العمليات التى اعتمدت على شجاعة الأفراد وبطولاتهم التى قضت بالفعل على أسطورة ما يسمى بالجيش الذى لا يقهر، دون أن ننسى قصة الاستنزاف التى مهدت لهذه المعارك والتى جاءت وفق تخطيط محكم وخداع استراتيجى مبهر، أعلن عن مولد قوة عسكرية جديدة فى العالم، وربما كان ذلك هو الأمر الذى سبب الكثير من الألم للعديد من القوى الدولية والإقليمية (أمريكا كانت على حافة اللجوء لقوتها النووية)، ولا أبالغ إن قلت، وفقا للكتابات الإسرائيلية نفسها، إن هذا ما دفع حكام تل أبيب بعد شهور قليلة من هذه الحرب، للانصياع لفكرة التفاوض مع مصر (مفاوضات فض الاشتباك الأول 1974) وهى الفكرة المستحيلة التى لم ترد على ذهن ساسة الدولة العبرية التوسعية التى لم تكن تفهم بعد يونيو 1967، سوى الحرب والاستيطان والرغبة فى دولة (من النيل إلى الفرات)، لكن على ما يبدو أن هناك من استوعب الدرس فى تل أبيب وعرف جيدا حقيقة الجيش العملاق الذى ولد فى هذه الحرب، فاستسلم للتفاوض الذى انتهى بالسلام الذى مازال يؤلم الكثيرين منهم حتى الآن، على عكس ما يردد البعض بأن مصر أضاعت الانتصار بمعاهدة السلام. المؤلم حقا، أننا، لأسباب سياسية مختلفة (غالبيتها صغيرة وتافهة)، لم نضع هذا الانتصار فى مكانه الصحيح، ولا جعلناه قاعدة انطلاقنا الجديدة، ولم نكتبه جيدا ولم نعلمه لأبنائنا بقدره وحجمه، وسقط كثيرون (خاصة المثقفين) فى براثن غوغائية الخلاف حول الانتصار، فبدا هذا الانتصار فى أحيان كثيرة مثل الهزيمة، وفى أفضل الأحوال، انتصار تبدد لحظة هبوط طائرة الرئيس الراحل انور السادات فى القدس، فى حين، أننا حتى هذه اللحظة لم نجتهد فى اكتشاف وتسجيل العبقريات الحقيقية التى مكنتنا من تحقيق الانتصار، وأعتقد أن إسرائيل لعبت دورا جوهريا فى إذكاء الخلافات السياسية، التى نجحت فى إخفاء انتصار أكتوبر، الذى تمقته تل أبيب وتتمنى محو هذا العار من التاريخ، وكأنه لم يكن.. لكن لماذا نشارك جميعا فى هذه الخطة، لماذا لا نعيد هذا الانتصار إلى واجهة ذاكرتنا، ولماذا لا نضعه على مائدة فخرنا، لماذا لا نجعله النصر الذى سيدلنا على مستقبل يستحقه أبناء وأحفاد أبطال العبور العظيم، دون أن ننسى أن السادات كان الضحية الأخيرة لهذه الحرب، فمن قتلوه قالوا إنه صنع سلاما مع إسرائيل، ونسوا غالبا بفعل فاعل أنه هو الذى حرر الأراضى التى اغتصبت وكان صاحب قرار هذه الحرب العظيمة وبطل هذا الانتصار العبقرى.