محمد فيض خالد تجول ذكرى تلك الأيام فى ذاكرتى بردا وسلاما، تتمدد وتتسع كلما ألحت الحاجة، أذن الله أن تزول الغمامة عن عينى، أن تتكشف بوادر المستقبل، لم يخطر حينها ببالى أن أقفز مثل هاته القفزة، فغاية أمانى التى رسمتها لنفسى فى هذه بلاد الغربة، ووسط هؤلاء البؤساء المطحونين، أن أعمل بائعا، أتنقل بين ساعات يومى راضيا كغيرى، لكن ذلك لم يرق لمن حولى، مبكرا ظنوا فىَّ المكر والخديعة، حاولت أكثر من مرة الإفلات من مصيدتهم، كذلك صور لهم شيطانهم أن الفتى الوافد من أصحاب الطموح السوبر، وما المانع أن يصبح بين عشية وضحاها مدرسا، يتلاعب بالدنانير، تثير أحاديثهم الجانبية اشمئزازى، نجواهم التى تجاوزت الهمس للمجاهرة فى تبجح، يتوجه إلى «أبو شنب» وقد انفجرت عيناه عن لوزتين كبيرتين، تضىء وجهه الأهتم، يهرش طرف شاربه الكث، ينفث فى فوضى دخان شيشته، ليغيب الحضور فى ضباب كثيف، يعاود هرش شعر رأسه الهايش: «كم يا ترى راتب المدرس الحكومى الآن؟»، يتقاسم نظرات اللؤم بينه وبين «الحج عدوى»، انشغل الأخير بالتقاط مبسم الشيشة فى تأس، قبل أن يطلق من صدره مجرور هواء حار، يغمض عينه فى تخابث: «انصحك ألا تخرج من البيت هذه الأيام فدرجة الحرارة بالخارج تذيب الحديد»، يضحكنى هذا البله السخيف. بعد أسبوع ذهبت بناء على توصية من صديق، يحتاجون لمحرر بوزارة الأوقاف، لا أحمل هما، لا شىء عندى لأخسره، لا أملك غير حافظة أوراق معروقة، طويتها تحت إبطى، أفردها على فترات أتحاشى بها لعاب الشمس الحارق، وآمال ما إن تنبت حتى تجف، وسراب سبقنى بسنوات، وأمواج لا تكف عن لطمى، ومصير مجهول أصبح سلوتى فيه انتظار الفرج الميؤوس، ومشاعر تقتلعنى من مكانى كى لا أنتظر، فطابور البؤس طويل ممتد يفتح ذراعيه لاحتوائك. على المحطة استوقفنى شاب صعيدى يسألنى عن محل للخردوات، وآخر عن رقم حافلة، وثالث عن أقرب مطعم، تجمع من حولى بقدر قادر عشرة من الهنود، يسألوننى عن سوق السمك، تحولت لمكتب استعلامات متنقل، انفجرت فى ضحك طويل، أقلب بصرى فى الوجوه الغارقة فى العرق، فهذا حال الغريب فى غربته، يتعلق بقشة، يظنها أمله الوحيد فى النجاة. أمام البوابة استقبلنى حارس الأمن بوجه كالح، بغير اهتمام طلبى منى إبراز الهوية، أن أفرغ محتويات جيبى، فى تأفف ألقيت بحافظة أوراقى، نثرت بضع عملات معدنية فى ضيق، ابتسم هازئا، قال بنبرة ساخرة: «ماذا تريد؟»، لا يتوقف عن هز رأسه الضخم، وتحريك قدمه فى توتر، أشار بيده يمينا، قائلا فى حسم: «من هنا يا ريس»، خطوات وشعرت ببرودة المكان تتغلغل بجسدى، الذى أخذ يرشح، ابتلت ملابسى، تملهت ريثما تجف، سرح خيالى على الفور فى عوالم رحبة، سكنت ثورة نفسى وأنا أطالع اليافطة الصفراء «وزارة الأوقاف»، على الفور تواصلت مع صديقى الذى جاء مسرعا، قادنى لغرفة بواجهة زجاجية، اقترب من شيخ معمم حياه فى تلطف، رفع الرجل رأسه ببطء من فوق كتاب يتصفحه، رمى إلىَّ بعين حمئة، لم يمهله صاحبى: «بخصوص مقابلة المحررين يا مولانا بناء على طلب المدير»، أشار بيده ناحية كرسى قريب فجلست، مرر صديقى يده فوق كتفى مطمئنا، فى حديث مقتضب، أخرج الشيخ قلمه وبدأ فى تدوين تأشيرته: «المذكور أفضل المتقدمين ويصلح للوظيفة»، انتفض قلبى كعصفور لا أصدق عينى، انفكت تجاعيد وجه الرجل عن ابتسامة صافية، ليقول فى حنو: «مبروك»، التقط صاحبى الورق بوجه متهلل، سلمها لسكرتير المدير للعرض عليه، ألقيت بجسدى فى بطن مقعد كبير، بدأت محركات عقلى فى العمل، مرت من أمامى مشاهد كثيرة، رأيتنى طفلا صغيرا يتعقب الفراشات فى حقول البرسيم، أقفز بين مجارى المياه، أتسلق جذوع الصفصاف أفتش عن بيوت اليمام وأفراخه، أمتطى ظهر حمارنا البنى أسابق طيور المساء العائدة لأعشاشها بعد نهار سعى مضنٍ، طنين النحل فوق فروع شجرة التوت يتصاعد، صوت أمى يوقظنى للمدرسة، نوبة سعال الوالد تعلن اقتراب صلاة الفجر، النخلات الطويلات تتمايل فى شموخ معانقة الشروق، مودعة الغروب. انتبهت أخيرا على صوت الفراش الهندى، يسألنى: «شنو يشرب؟».