■ بقلم: أحمد البشرى اعتاد الجمهور والنقاد على مدار تاريخ الفن المصري والعربي مهاجمة أى عمل درامى جديد وبشراسة إذا ما كان يتناول السيرة الذاتية لشخصية عامة أو تاريخية فذّة لها الكثير من المعجبين، حتى قبل مشاهدة الفيلم أو المسلسل، بل بمجرد طرح الفكرة. وهذا ما تعرض له فيلم الست لأحمد مراد ومروان حامد، بطولة منى زكى، التى نالها النصيب الأكبر من الهجوم بحجة بُعدها عن المواصفات الشكلية للشخصية، وضآلة حجمها مقارنة بسيدة الغناء العربى، مع أن المعاصرين لكوكب الشرق يؤكدون أنها كانت أقصر مما تبدو عليه، وترتدى الكعب العالى دائمًا، فكان البنيان الضخم الذى تظهر به يعود فى جزء منه لوضع ومكان الكاميرا وزوايا التصوير التى كانت تتدخل كثيرًا فى اختياراتهم، كما يعود فى جزء آخر لعظمة وشموخ الشخصية وروحها الأبية وكاريزمتها الخاصة التى كانت تلقى بظلالها على سيكولوجية عملية الاستماع والمشاهدة. فتغاضى هؤلاء المهاجمون عن أن فروق الشكل يمكن التغلب عليها بالمكياج المتقدم والمؤثرات البصرية الحديثة، التى للمخرج مروان حامد باع طويل فيها، وأن الأداء ومعايشة الشخصية وتقمصها وتلبُّس روحها فى جسد الممثل هو الأهم فى عملية الإبداع الفنى، ما يجعل المشاهد ينسى أوجه التشابه والاختلاف، ويتماهى مع البطل والأحداث كأنها واقع حى أمامه. وهذا هو الرهان الذى خاضه فريق عمل الفيلم باختيار منى زكى - أنسب نجمات جيل الوسط حاليًا فى السينما المصرية - لأداء تلك الشخصية بمراحلها المتعددة، صعودًا وهبوطًا، بالآليات الفنية المذكورة مسبقًا؛ فهى أكثرهن موهبة واجتهادًا ودراسة لأى شخصية والعمل عليها والارتقاء بالأداء فيها لما يقترب من الحقيقة، لا ينافسها فى ذلك غير هند صبرى، التى لو خاضت تلك التجربة لتعرضت لهجوم أكثر حدّة بسبب جنسيتها التونسية، مع أن الفن يرتقى فوق كل الفروقات. لكن لا تزال التجربة المريرة للمخرجة الإيرانية شيرين نشأت ماثلة فى الأذهان بفيلمها البحث عن أم كلثوم، الذى فشلت بطلته المغربية ناجية الصقلى فى أداء الشخصية فى مرحلة العمر المتقدمة، بالرغم من الأداء المرضى لياسمين رئيس فى المرحلة الوسطى، ونور قمر فى السن المبكرة. كما طالب بعض المهاجمين بالتوقف عند مسلسل أم كلثوم لصابرين، التى تعرضت لنفس الهجوم عند إسناد البطولة لها من قبل المخرجة الكبيرة إنعام محمد على، باعتبار أن هذا المسلسل بلغ أقصى درجة فى كل جوانب العمل الفنى، بالرغم من أنه أظهر سيدة الغناء العربى بصورة مثالية فوق الحد، وكأنها بلا أخطاء تقريبًا، بما يتوافق مع وجهة نظر المتشددين من معجبيها الذين يبجلونها لمستوى التقديس. لكن فى الدراما لا يوجد أحد فوق مستوى النقد؛ فلا يوجد بها ملائكة تمشى على الأرض، ومن أساسيات العمل الفنى أن تكون الشخصيات متوازنة، فيها الجانبان: الخير والشر معًا، تجمع بين المتناقضات والتحولات، وإلا تصبح شخصية مسطّحة غير حيّة وليست ثرية دراميًا. كما يرى أنصار هذا التوجه أن صابرين بلغت سقف التمثيل فى أداء تلك الشخصية، ولن يستطيع أحد أن يضاهيها، لكن لا يمكن اتباع هذا المنطق وغلق باب الإبداع عند بطل أو عمل فنى بعينه مهما كانت درجة جودته ونجاحه، وإلا نكون قد أصبنا بالجمود الفكرى والفنى. فأم كلثوم، بجوانب حياتها المختلفة والمتعددة، على مدار رحلة 77 عامًا، لا يمكن أن تقتصر على عمل فنى واحد، بل تحتاج اختلاف آليات الطرح والرؤى والاجتهاد كى نوفيها حقها وقدرها الذي تستحقه. فحتى المسلسل الأيقونى النموذجى لم يسلم من الهجوم من ورثة بعض المشاركين لها فى أعمالها الفنية، الذين لعبوا دورًا مؤثرًا فى مسيرتها، لعدم تعرضه لهم أو ظهورهم بشكل هامشى لا يتناسب مع مكانتهم. ومن هنا تأتى أحد أسباب أهمية التعددية الفنية وعدم حكر الإبداع، كما حدث أخيرًا فى فيلم الست، الذى نتمنى ألا يكون آخرها، وأن يكون الفيلم - الذى سيُعرض قريبًا - على نفس المستوى المبشر للتريلر الخاص به، وبما يليق بعظمة الشخصية المنوط بها، فى ذكرى وفاتها ال51، كى يخرس ألسنة معارضى التحديث والتجديد والتطوير الفنى المثمر.