في تقرير جديد لمجلة «فورين بوليسي» الأمريكية، برزت ملامح ما يصفه الخبراء ب «سياسة اللا حل» التي تعتمدها إسرائيل في التعامل مع قطاع غزة منذ سنوات، وهي السياسة ذاتها التي عادت للظهور بعد حرب دامت عامين وألحقت بالقطاع دمارًا واسعًا وبإسرائيل عزلة دولية غير مسبوقة. ورغم حجم الخسائر البشرية والمادية، ورغم تعهّدات الحكومة الإسرائيلية بتغيير قواعد اللعبة بعد هجوم 7 أكتوبر 2023، كشفت التطورات أن الاستراتيجية الإسرائيلية الأساسية لم تتبدّل، وأن الوضع الراهن يُعاد إنتاجه تحت مسميات جديدة. وهذه السياسة بحسب تحليل الباحث روب جيست بينفولد من كلية كينجز لندن لا تتطلع إلى حل الصراع، بل إلى إدارته واحتوائه وإبقائه خارج إطار التسوية الدائمة، الأمر الذي يجعل غزة رهينة معادلة أمنية مغلقة لا تمنح الفلسطينيين أفقًا سياسيًا، ولا تقدم لإسرائيل نصرًا حاسمًا، لكنها تُبقي نتنياهو في موقع المناورة السياسية. وكشف التقرير ما وراء هذه الاستراتيجية، كما شرح كيف تحوّلت الحرب إلى دائرة مغلقة تعيد إنتاج المشهد ذاته كل عدة سنوات. «تحقيق رسمي.. لكن بلا إجابات حقيقية» بعد عامين من المماطلة، وافقت الحكومة الإسرائيلية على تشكيل لجنة تحقيق في الإخفاقات التي سبقت هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023، ورغم أن الخطوة جاءت بضغوط سياسية، يرى منتقدو رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو أنها محاولة لامتصاص الغضب العام أكثر من كونها رغبة في كشف الحقيقة، خاصة مع استمرار رفضه تحمّل أي مسؤولية مباشرة. لكن المفارقة، وفق التقرير، أن نتنياهو أقرّ ضمنيًا بمسؤوليته حين أعلن أنه لن يسمح بالعودة إلى الوضع السياسي الذي سبق الحرب وهو الوضع الذي صاغه بنفسه وأصر على استمراره لسنوات. اقرأ أيضًا: خلافات بين اسرائيل والولايات المتحدة حول الانتقال للمرحلة الثانية من خطة ترامب اتهامات أمنية صريحة: «إدارة الصراع» أخفقت تمامًا كشفت التحقيقات الداخلية للأجهزة الأمنية الإسرائيلية بحسب المجلة نتائج واضحة حول: الاستراتيجية التي اتبعتها إسرائيل قبل الحرب، والقائمة على إدارة الصراع بدل حله، كانت متناقضة وغير قابلة للاستمرار. ووفقا للمجلة ذاتها، فقد اعتبرت إسرائيل حماس «تنظيمًا غير شرعي»، لكنها في الوقت ذاته لم تسعَ لصناعة بديل سياسي لها في غزة، ونتيجة ذلك كانت اعتمادًا مفرطًا على القوة العسكرية الإسرائيلية رؤية سياسية طويلة المدى أو خطة لمرحلة ما بعد العمليات ما يُعرف الآن ب «خطة اليوم التالي». وبرغم مرور عامين من القتال، ترى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن هذه التحذيرات ما زالت قائمة. تغييرات ميدانية بلا تغيير في قواعد اللعبة أكد التقرير أن ما حدث يشبه تحريك قطع الشطرنج لا تغيير قواعد اللعب، فالوعود الإسرائيلية ب «النصر الكامل» و«تدمير حماس» لم تتحقق، وبدلًا من ذلك عاد الوضع إلى معادلة مألوفة حول: احتواء الصراع دون حسم. ورغم صمود وقف إطلاق النار منذ 10 أكتوبر، لم يتوقف العنف بالكامل، استشهد أكثر من 300 فلسطيني وقال ثلاثة جنود إسرائيليين منذ الهدنة، ويشير التقرير إلى أن العوامل التي تُبقي الصراع مستمرًا ما تزال كما هي. إستراتيجية إسرائيل لم تتغير ما بعد 7 أكتوبر يرى الباحث أن أغلب التحليلات تجاهلت نقطة أساسية بشأن: أن السياسات الإسرائيلية تجاه غزة لم تتبدّل بشكل حقيقي بعد الهجوم. فإسرائيل تواصل استخدام الأدوات ذاتها: العزل، والحصار، والردع العسكري، وغياب أي مبادرة سياسية. «الخط الأصفر».. حدود جديدة تشبه جدار برلين بحسب "فورين بوليسي"، وصفت شخصيات إسرائيلية «الخط الأصفر» حدود السيطرة على 53% من غزة بأنه جدار برلين جديد، بمعنى أنه ليس إجراءً مؤقتًا كما تدّعي الحكومة الإسرائيلية. بينما يعتقد محللون أن السيطرة الإسرائيلية الجديدة ستفاقم الأزمة الإنسانية في غزة وتُبقي أي مشاريع إعادة إعمار معرضة للإلغاء في أي لحظة. تكرار نموذج ما قبل الحرب.. مساعدات تكفي لتفادي المجاعة فقط بموجب الهدنة، سمحت إسرائيل باستئناف دخول المساعدات إلى غزة، لكنها تُبقي كميتها عند الحد الأدنى للكثير من المناطق في القطاع. ونتيجى ذلك، يحصل سكان غزة على ما يكفي لتجنب المجاعة، لكن دون أي تحسن يُذكر في ظروف حياتهم تمامًا كما كان الوضع بعد 2007، حين فرضت إسرائيل الحصار بهدف الضغط على الفلسطينيين للقضاء على حماس، وهو هدف لم يتحقق خلال 17 عامًا. احتلال أوسع.. «لكنه يحمل المنطق نفسه» بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، باتت إسرائيل تسيطر مباشرة على معظم القطاع، ومع ذلك، يشير التقرير إلى أن إسرائيل كانت لديها بالفعل منطقة عازلة قبل 7 أكتوبر، وأن اتساعها الآن لا يعني تغييرًا جوهريًا في النهج. من جهة، أُصيبت حماس بخسائر ضخمة، حيث قُتل أغلب قادتها، ونفدت ذخيرتها، ومع ذلك، ما تزال بحسب تقديرات إسرائيل تملك 20 ألف مقاتل وتحتفظ بإرادة القتال. الوضع يعود لما قبل الحرب.. لا لما بعدها ومع استقرار وقف إطلاق النار، تكشف الوقائع أن سياسة إسرائيل تجاه غزة عادت إلى سيناريو ما قبل 2023، بشأن إدارة الصراع بدل إنهائه. أما نتنياهو، الذي يرفض تحمل المسؤولية عن الهجوم، فيستمر في نهج يؤجل حل القضية إلى أجل غير مسمى. وقد جعل هذا النهج إسرائيل أكثر عزلة دوليًا، دون أن يقرّبها خطوة واحدة من «اليوم التالي» الذي وعدت به.