تحوَّلت القرية كلها إلى فرح شعبي؛ ميدان تحطيب وخروج الفرسان على خيولهم فى سباقات أخوية رائعة أعادت لى حكايات الأساطير والفروسية . فتوى حسب الطلب المُخضرَم هو الذى عاصر عهديْن حيث يُفاجَأ أن النظام الذى يدين له بالولاء قد رحل وجاء نظام آخر يسير على نهج مختلف أو مضاد للنظام السابق حينها يقع الفقيه المتسلق والسياسى الإمّعة فى ورطة وقد يُغفر للسياسى لأنه يدين بالولاء للدولة أيا كان من يقودها لكن المشكلة الأكبر للفقيه؛ فإن كان فقيها صادقا فإنه يظل على رأيه الذى قاله بعد تفكّر وبحث واطمئنان وخير مثال على ذلك موقف الإمام أحمد بن حنبل وغيره حيث اختُبِرُ فصمد وتحّمل ما لا تطيقه الجبال لكنه أبى أن يغيّر فتواه فيما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ لكن ما نراه الآن يدعو للعجب، فمن أفتى بحُرمة الموسيقى فى عهد أجازها هو -نفسه- فى عهد آخر.. ومن حرّم قيادة المرأة السيارة مستندا إلى دلائل واهية، دحضها -هو نفسه أيضا- وأثبت أن الدين لا يُحرّم قيادة السيارة بل يدعو إلى ذلك.. ومن أفتى بفرض الجهاد فى عهد أفتى بتحريمه؛ ومن أفتى بتحريم الترفيه أفتى بحلّه وأن الترفيه واجب لأن القلوب إذا كلّت عميت، ومن أفتى بفرض النقاب أفتى بأنه ليس من الدين فى شيء، وقِس على ذلك فتاوى لا تُعد ولا تُحصى كفتاوى تحريم بناء الكنائس وترميمها ثم تحليل ذلك وتحريم إلقاء التحية على غير المسلمين وتهنئتهم إلى حلّها، وتحريم إنارة الشوارع ليلا إلى ضرورة ذلك، وتحريم شرب القهوة إلى حلها؛ هذه الفتاوى حرّرها مُفتون حينا وحرموها -هم أنفسهم- فى اليوم التالى ولو أن هؤلاء صارحوا الناس وأنهم كانوا مجبرين فى أحد القوليْن لعذرهم الناس، ولكن حُمرة الخجل لا تظهر على أوجههم ويظنون أن ذاكرة الناس ضعيفة، وكل شيء سوف يُنسى بعد حين، لكن الناس لا تنسى. المتساقطون لا تجد تبريرا لهذه الأقنعة التى تتساقط وتسقط معها بكل أسف صورة رجل الدين الذى كان الناس يجلّونه ويحترمونه، والأخطر فى هذا الأمر أن الناس لن تحصر هذا الحُكم على رجل واحد بل ستُطلق الحُكم على الجميع، ولأن الناس كانوا به مقتنعين وبعضهم كان به مفتونا فيهوى من علٍ فى عيونهم ويفقد القدوة والمثال الذى نصبه أمام عينيه.. ينبغى هنا أن أوضح أننى لستُ مع انغلاق الفتوى وتجمّد الرأى فالفتوى تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة وليس بتغيّر السّاسة، فقد أودت بعض الفتاوى بشباب فى مقتبل العمر، صدَّقوا هؤلاء وربطوا أحزمة ناسفة على بطونهم ليفجروها فى إخوتهم وفى أنفسهم تبعا لفتوى مضللّة، وكم من شباب راح لميادين قتال ظنا أنه جهاد كما أفتاهم بذلك واحد مضلل، كان يتباكى وهو يفتى فإذا بالشباب يكتشف أنهم يقاتلون مع عصابات ضد بعضها البعض، وحينما سئل ذلك المستشيخ قال لا علم لى بذلك وأنه لم يقل ذلك لأحد فى كذب بواح! وكم كان المشهد مهينا له ولأمثاله، وحينما سئل عن أقواله على المنصة تبرّأَ منهم وقال: كنتُ أنصحهم ولم ينتصحوا ونسى أنه كان صوتا وصورة. إعلانات على الأجساد يُقبل شبابنا على شراء ملابس عليها إعلان الشركة المنتجة ويمشون بها وقد بدت ببنط عريض على ظهورهم وهذا ليس فى الملابس وحدها بل فى السيارات أيضا، وعلى هذه الشركات أن تدفع لمروّج هذا الإعلان مبلغا أو تُنقِص من ثمن السلعة مبلغا نظير نَشر هذا الإعلان وترويجه، وكم أتعجب كثيرا من الجُمَل المكتوبة ببنط عريض بلغات أجنبية فبعضهما شتائم لمن يرتديه ولمن يقرأها وبعضها ضد الأديان وعاداتنا وتقاليدنا.. فهل يعرف الشباب معانى ما أعلنوه على أجسادهم؟ وأما الصور المسروقة فهى فى حاجة إلى مراجعة ومحاسبة لأنها تعَدَّتْ إلى الإساءة وقِلة الذوق ونسى هؤلاء المثل القديم «كُلْ ما يعجبك والبسْ ما يعجبُ الناس». الانتخابات وعودة التراث الشعبى فجأةً أعادت لنا فترة الانتخابات البرلمانية الفِرَق الموسيقية والفنون القديمة القائمة على القوَّال والربابة والمزمار البلدى والحكواتي، ورحتُ أتابع ما يحدث فى قريتى «العُوَيْضات» ومركزِى «مركز قِفْط» من احتفالات وأفراح بنجاح ابن عمى محمد عبد الفتاح آدم فى انتخابات مجلس النواب وقد تحوَّلت القرية كلها إلى فرح شعبي؛ ميدان تحطيب وخروج الفرسان على خيولهم فى سباقات أخوية رائعة أعادت لى حكايات الأساطير والفروسية، وتبارى الشعراء فى قصائدهم وردود بعضهم فى مباراة شعرية، وعادت جلسات السَّمَر والحَكْى على الدِّكَك فى أخوَّة ومحبّة جمعتْ كلّ أبناء القرية، وعاد لعب «العصاية» بفنونه المتوارثة وقواعده الصارمة الجميلة؛ هذا الحضور يجعل التراث حيًّا وليس ذكريات قديمة متوارثة بل هو فن معيش فى الجينات يتوارثه الآباء عن الأجداد ليورثوه لأحفادهم، دائما فى صعيد مصر كانت وما تزال المناسبات مرتبطةً بالتراث الشعبى حتى المناسبات الدينية ربطها المصرى بطقوس شعبية؛ فى الحج دهنوا واجهات البيوت ورسموا عليها حاجّهم فوق الجمل مسافرا فى الصحراء متجها لميناء عيذاب قُرب القُصير على البحر الأحمر ليعبره، فرسموا السفينة التى ستبحر به إلى ينبع قُرب جدة اليوم حتى يصل إلى مكة، وعندما اخترعوا الطيارة رسم الفنان الطائرة وتخيّل حاجه وهو يطوف حول الكعبة وفى الروضة الشريفة. لكن العودة إلى التراث فى الانتخابات أفرحتنى كثيرا وقد شاهدت التفاف الناس حول تراثنا فى دهشة وإعجاب ومشاركة ومحبة كبيرة. اللغة العربية عند غير العرب فى مؤتمر بدبى شاركتُ فيه الشهر الماضى وفى جلسة استثنائية تحدث بعض المستشرقين والمستعربين من شتى دول العالم عن إقبال غير العرب على تعلُّم اللغة العربية فى بلدانهم إما بدافع معرفى ثقافى أو بدافع دينى وقد أجمعوا على أهمية وجود شهادة عربية موحدة على غرار شهادة اللغة الإنجليزية أو الفرنسية يعترف بها العالم وتشهد أن حاملها قد أجاد اللغة العربية ويحدد فيها مستوى الإجادة، وهذا المطلب ينبغى على الجامعة العربية أو اتحاد الجامعات العربية القيام به، وهذا جهد يسير يتطلب التنسيق بين الدول العربية لإقامة معهد تعليمى عربي، سَموه ما شئتم؛ معهد الخليل بن أحمد، معهد المتبني، معهد أحمد شوقى، معهد الجواهري، معهد نجيب محفوظ، لن نختلف عن الاسم كعادتنا، وتضع مجامع اللغة العربية وأقسام اللغة العربية بجامعاتنا منهجا تعليميا لغير العرب يراعى التسهيل والتشويق حتى نحبّب غير العرب فى لغتنا، منهجا يبتعد عن الشواهد النحوية الصعبة ويراعى العصر ويوظف طرائق التدريس الحديثة، ويحث على القراءة والفهم والحوار؛ ويأتى فى كُتب ورقية جذّابة وإلكترونية مُدهشة، وأن يشترك غير العرب من المشرقيين والمستعربين فى وضع المناهج لأنهم أدرى بما يحتاجونه، ومن الممكن أن تكون الملحقيات الثقافية بسفارات البلدان العربية مقرا لهذا المعهد؛ مقر واحد بسفارة عربية ما فى العالم، وتوزّع المقرات على سفارات العالم العربى بالخارج على حسب المكان والاستطاعة وما أكثر الملحقيات الثقافية فى السفارات العربية التى تبحث عن أنشطة فإن أبَتْ أن تقوم بهذا الدور فلْنختر جامعة فى كل بلد تخصص مقرا بها لهذا المعهد.. وأما الشكوى من إهمال العرب تدريس غير العرب اللغة العربية فكانت شكوى عامة مكرورة، حبذا لو أدركنا أهمية اللغة وضرورة نشرها، أما سمعتم الرئيس بوتين وهو يحدد أسباب نشوب حرب روسيا/أوكرانيا لأن الأخيرة منعت تدريس اللغة الروسية فى المدن الأوكرانية ذات الأغلبية الروسية، وانظروا لاعتداد الألمان بلغتهم، وما تفعله فرنسا فى الفرانكفونية.. كما تحدثت البروفيسورة البولندية ماجدالينا ليفيتسكا عن العودة فى بلدان أوربية إلى السبورة على حائط الفصل وضرورة أن يكتب التلميذ إذ أجرتْ وفريقها بحثا على آلاف التلاميذ والطلاب فى الفارق الناتج عن الكتابة على الأوراق بالأقلام العادية، فى مقابل الكتابة على الهاتف واللدائن كاللاب توبْ والتابلتْ ليكتشفوا أن الذين كتبوا بخطّ يدهم أكثر فهما وحفظا من غيرهم فعودوا إلى أقلامكم وأوراقكم؛ فالخطُّ من الرزق الحسن. فى النهايات تتجلى البدايات شَبَكَةُ طفل: طِفْلٌ صغيرٌ راحَ يصطادُ الصباحَ فلم يجدْ إلا المساءْ فابْتَاعَهُ، جمَعَ النجومَ وضَمَّها نهرًا من الأنوارِ، فانْهمرَ الصباحْ