في لحظة تحمل دلالات تاريخية عميقة، استقبل البابا فرنسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، الملك تشارلز الثالث في الفاتيكان، في زيارة وُصفت بأنها «مليئة بالرمزية»، لا سيما فى سياق العلاقة المعقدة بين الكنيسة الإنجليزية والفاتيكان، التى تمزّقت قبل خمسة قرون، وتحديدًا منذ عهد الملك هنرى الثامن 1534. ◄ تشارلز الثالث: «آن أوان العمل المشترك من أجل السلام والعدالة» شارك الملك والبابا فى صلاة مشتركة، مما يُعدّ حدثًا نادرًا فى تاريخ العلاقة بين الكنيستين، ويُنظر إليه على أنه خطوة رمزية قوية نحو المصالحة الروحية والتقارب بين الطرفين بعد عقود من التباعد. تعود الجذور التاريخية للانفصال بين إنجلتراوالفاتيكان إلى القرن السادس عشر، حين رفض البابا كليمنت السابع منح الملك هنرى الثامن إذنًا بالطلاق من زوجته كاثرين، ليستطيع الزواج مرة أخرى بعدما فشلت كاثرين فى منحه وليًا للعهد، وهو ما دفع الملك إلى قطع العلاقات مع روما وإعلان نفسه «رئيس الكنيسة الإنجليزية» عبر قانون السيادة الكنسية 1534، ومنذ ذلك الحين أصبحت الكنيسة الإنجليزية كيانًا مستقلًا عن سلطة البابا، رغم بقائها ضمن التقاليد المسيحية الغربية. ◄ اقرأ أيضًا | أول بابا أمريكي للفاتيكان.. دعا للسلام وبناء الجسور ◄ توتر وانغلاق وخلال القرون التالية، تخلّلت العلاقة بين لندنوروما فترات من التوتر والانغلاق، بل والاضطهاد المُتبادل أحيانًا، خاصة في عهد الملكة إليزابيث الأولى، التى ثبّتت الهوية البروتستانتية لبريطانيا، وعهد الملك جيمس الثانى الكاثوليكي، الذى أُطيح به فى «الثورة المجيدة» 1688، واستمرت القيود القانونية على الكاثوليك فى بريطانيا حتى القرن التاسع عشر، حيث لم يُسمح لهم بتولى مناصب حكومية أو حتى بالدراسة في أكسفورد وكامبريدج. ورغم هذا التاريخ المليء بالشقاق، بدأت مسيرة التقارب بين الكنيستين فى النصف الثانى من القرن العشرين، خاصة بعد المجمع الفاتيكانى الثانى «1962 1965»، الذى فتح أبواب الحوار بين الكنيسة الكاثوليكية والطوائف المسيحية الأخرى. ففى 1966 قام رئيس أساقفة كانتربرى مايكل رامسى بأول زيارة رسمية لبابا روما، حيث التقى بالبابا بولس السادس، مما مثّل نقطة تحول كبرى فى العلاقات بين الكنيستين. ومنذ ذلك الحين تطور الحوار اللاهوتى بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأنجليكانية، وأُسست لجنة دولية مُشتركة 1967 لبحث سُبل الوحدة المسيحية، ومع ذلك ظلت بعض القضايا الخلافية مثل سرّ الكهنوت، ودور المرأة فى الكهنوت، والمواقف من الزواج المثلى عقبات أمام تحقيق وحدة كاملة. ◄ أبعاد روحية زيارة الملك تشارلز الثالث للفاتيكان ليست مجرد لقاء دبلوماسى تقليدي، بل تحمل أبعادًا روحية وسياسية وثقافية عميقة، فتشارلز، الذى اعتلى العرش خلفًا لوالدته الملكة إليزابيث الثانية فى سبتمبر 2022، أول ملك بريطانى يشارك فى صلاة مشتركة مع بابا روما داخل الفاتيكان منذ الانفصال التاريخي. وقد عبّر الملك خلال اللقاء عن «التقدير العميق للحوار المستمر بين الكنيستين»، مؤكدًا على أهمية «العمل معًا من أجل السلام والعدالة فى عالم يعانى من الانقسامات». ومن جهته، وصف البابا فرنسيس اللقاء بأنه «هدية من الروح القدس»، مشيدًا ب«الالتزام المشترك بالخدمة والرحمة»، وداعيًا إلى «مزيد من التعاون بين المسيحيين فى مواجهة التحديات المعاصرة، من الفقر إلى تغيّر المناخ». وتأتى هذه الزيارة فى سياق دولى مُضطرب، حيث تتصاعد التوترات الجيوسياسية، وتتفاقم الأزمات الإنسانية، ويتراجع دور الدين فى بعض المُجتمعات الغربية، وفى هذا السياق يسعى كلٌّ من الملك تشارلز والبابا فرنسيس إلى تعزيز دور القيم الأخلاقية والروحية كأساس للتعاون بين الشعوب، كما أن الملك تشارلز، المعروف بدعمه للحوار بين الأديان واهتمامه بالقضايا البيئية، يرى فى الكنيسة الكاثوليكية شريكًا طبيعيًا فى هذه المبادرات. ◄ أهمية خاصة وعلاوة على ذلك، فإن الزيارة تكتسب أهمية خاصة فى ظل التغيرات الاجتماعية داخل الكنيسة الأنجليكانية، التى تشهد انقسامات داخلية حول قضايا مثل الزواج المثلى ودور المرأة، مما يدفع بعض الأطراف إلى إعادة النظر فى العلاقة مع روما. وربما كان أبرز ما ميّز الزيارة مشاركة الملك والبابا فى صلاة مُشتركة، وهو أمر لم يحدث من قبل بين ملك بريطانى ورئيس الكنيسة الكاثوليكية. ورغم أن الصلاة لم تكن طقسًا سريًا نظرًا للاختلافات اللاهوتية إلا أن مُجرد وجودهما معًا فى لحظة تأمل ودعاء يُعدّ تجسيدًا حيًا لمبدأ «الوحدة فى التنوع»، وهو شعار يتبناه كلا الطرفين فى مسيرة الحوار المسكونى.