في أعماق المحيطات، بعيدًا عن ضوء الشمس وضجيج اليابسة، تجري واحدة من أروع صور الأمومة في عالم الكائنات. قد تبدو الحيتان مهيبة ومخيفة بحجمها الهائل، لكنها حين تصبح أمًّا، تتحول إلى مخلوق بالغ الحنان، يحتضن صغيره وسط زُرقة البحر برعاية مذهلة لا تقل عن معجزة في الخلق. فكيف ترضع الحيتان صغارها في الماء دون أن يضيع الحليب؟ الإجابة أغرب مما نتخيل، وأروع مما تصفه الكلمات. - أمّ تحت الماء.. وحنان لا يعرف الحدود جميعنا نعلم أن الحيتان من الثدييات، أي أنها تلد وترضع صغارها مثل الإنسان وسائر الثدييات الأرضية، لكن هناك فرقًا جوهريًا، فالحوت يعيش في الماء، ولا يمكن لصغيره أن يلتصق بحلمة الأم كما تفعل الثدييات البرية، وإلا غرق على الفور. لذلك، أبدع الله في خلق نظام فريد للرضاعة تحت الماء، تفرز أنثى الحوت الحليب مباشرة في الماء من حولها، عبر قنوات خاصة، بينما يسبح الصغير بالقرب منها ليتناول غذاءه، ورغم أن ذلك يبدو صعبًا في بيئة البحر المفتوحة، إلا أن سرّ النجاح يكمن في تركيب الحليب ذاته. - حليب لا يختلط بماء البحر حليب الحيتان ليس سائلًا خفيفًا كما لدى البشر، بل له قوام سميك يشبه الكريم أو معجون الأسنان، تصل نسبة الدهون فيه إلى نحو 45 – 50٪، ما يجعله كثيفًا ولزجًا بدرجة تمنع اختلاطه بالماء. وبفضل هذه الكثافة العالية، يبقى الحليب على شكل كتل بيضاء متماسكة تطفو حول الأم للحظات، فيندفع الصغير بسرعة ليبتلعها. وبهذا التكيّف المدهش، يحصل الحوت الصغير على غذائه الكامل دون أن يضيع منه شيء، حتى وسط الأمواج والتيارات البحرية. - وجبة دسمة لنمو سريع حليب الحيتان يُعد من أغنى أنواع الحليب على وجه الأرض، فهو لا يحتوي فقط على دهون عالية، بل يضم كميات ضخمة من البروتينات والمعادن اللازمة للنمو السريع. ولهذا السبب، يزداد وزن صغير الحوت بمعدل مذهل يصل إلى 45 كيلوجرامًا في اليوم الواحد! وفي غضون أشهر قليلة، يتحول من مولود ضعيف إلى عملاق بحري قادر على السباحة في المحيطات الواسعة. - لغة حب بلا كلمات الرضاعة ليست مجرد تغذية، بل وسيلة تواصل عاطفي بين الأم وصغيرها، فالحيتان تُصدر أصواتًا منخفضة وتلامسات جسدية أثناء الرضاعة، وكأنها همسات أمّ تطمئن طفلها، ترافقه في رحلاته الأولى، وتدافع عنه ضد المفترسات البحرية، حتى يصبح قادرًا على الاعتماد على نفسه. ويقول الدكتور محمد البنا، أستاذ الأحياء البحرية بجامعة الإسكندرية، الحيتان تقدم نموذجًا مدهشًا للأمومة في عالم البحار، طريقة الرضاعة لديها تمثل قمة التكيّف البيولوجي، وهي دليل على أن الطبيعة وُضعت بنظام محكم لا يمكن أن يكون وليد الصدفة. - تكيّف مع بيئة لا ترحم تعيش معظم أنواع الحيتان في محيطات باردة، تصل درجة حرارة مياهها إلى ما دون الصفر في بعض الفصول. لذا تحتاج الأمهات إلى حليب غني بالطاقة ليعوض الصغير عن فقدان الحرارة ويساعده على تكوين طبقة الدهون السميكة التي تحميه من البرد، وبهذا يضمن الحليب الكثيف دفء الصغير وسرعة نموه في أصعب البيئات على الكوكب. - دهاء الخلق.. وإعجاز التوازن من يراقب هذه العملية يدرك كم هي مذهلة دقة التوازن في عالم الأحياء: حليب مصمم خصيصًا لا يذوب في الماء، أمّ قادرة على إفرازه في لحظة معينة وبزاوية دقيقة، وصغير يعرف بالفطرة كيف يلتقطه بسرعة، كل ذلك يتم في عمق البحر، بلا أدوات أو تدريب، بل بإلهام فطري جعل من المحيط مسرحًا خفيًا للرحمة الإلهية. يقول الدكتور أحمد مجاهد، الباحث في علوم البيئة البحرية: لو تأملنا آليات الرضاعة عند الحيتان فقط، لعرفنا كم نحن أمام نظام متكامل من الدقة والإبداع، هذه المشاهد تُدرّس اليوم كأمثلة على التكيّف التطوري المعقّد الذي لا يزال يحير العلماء. بين أمواج البحر الباردة، لا تزال أنثى الحوت تقدم درسًا خالدًا في الحنان والإبداع، فمن رحم الأعماق ووسط العواصف، تنساب لمسة حبّ تحفظ الحياة وتغذّي الأمل.