يأتي فيلم «عيد ميلاد سعيد»، الذي افتتح به مهرجان الجونة السينمائي دورته الثامنة، كعملٍ إنساني يلتقط المفارقة بين البهجة الظاهرية والحزن الكامن في أعماق النفوس، ليحوّل مناسبة اجتماعية بسيطة إلى مرآة تُظهر هشاشة العلاقات وتناقضات المجتمع، الفيلم لا يركّز على الحدث بقدر ما يغوص في النفسي والوجداني، مستخدمًا الكاميرا كلغةٍ للتأمل في وجوه نساءٍ تتأرجحن بين الرغبة في الحياة والخوف من الانكسار. تدور الأحداث في منزل أسرة ثرية تستعد للاحتفال بعيد ميلاد طفلتها الصغيرة. في الجهة الأخرى من المشهد، طفلة أخرى تُدعى «توحة» - أدتها ببراعة فائقة الطفلة ضحي رمضان- ، تعمل خادمة في منزل هذه الاسرة الثرية، تراقب الاستعدادات لعيد الميلاد بصمت ودهشة، دون أن تعرف طعم الاحتفال يوماً، من خلال هذا اليوم الواحد، ينجح السيناريو في الكشف عن عالمين متوازيين داخل البيت الواحد: عالم الفرح المترف، وعالم الطفولة المقهورة التي تُحرم حتى من أبسط حقوقها — أن تحتفل بيوم ميلادها. تقدّم نيللي كريم وحنان مطاوع ثنائياً تمثيلياً استثنائياً، يُعيد إلى الأذهان ثنائية النقيضين في السينما الواقعية ، نيللي كريم تؤدي دور الأم الثرية التي تخفي هشاشتها خلف قناع من الانضباط، فتعبّر بلغة الجسد والنظرات أكثر مما تعبّر بالكلمات، في كل مشهد، تبدو محاصَرة داخل بيت أنيق لكنه بارد، حيث يصبح الترف قيدًا أكثر منه نعمة ، في المقابل، تظهر حنان مطاوع كوجهٍ آخر للحياة — الأم البسيطة التي تعمل ابنتها خادمة في منزل الآخرين، أداؤها يعتمد على الصدق الخام، صمتها موجع، ونظراتها تقول كل ما لا يُقال، تجسّد الكرامة وسط الفقر، والحنان وسط القسوة، دون أن تقع في فخ الميلودراما أو المبالغة، "نيللي وحنان" معاً، تخلقان توازناً بصرياً وشعورياً بين عالمين متناقضين: عالم يحتفل بالعيد، وآخر يقدّم له الخدمات، وبينهما يقف المشاهد شاهداً على هشاشة إنسانية تذيب الفوارق الاجتماعية في لحظة صدق إنساني واحدة. تقدّم سارة جوهر في هذا الفيلم رؤية إخراجية ناضجة تُعيد تعريف الفرح من منظورٍ اجتماعي. فهي لا تنظر إلى «عيد الميلاد» كمناسبة احتفالية، بل كرمزٍ لواقعٍ طبقي يختلط فيه الضوء بالظل ، تختار المخرجة أن تروي الحكاية من الداخل - بالكاميرا القريبة، والإيقاع الهادئ، والحوارات المقتصدة - لتجعل المتفرج يشارك الشخصيات ضيقها، لا أن يكتفي بمشاهدتها ، وتظهر براعتها في توظيف أداء نيللي وحنان كمحور بصري وفلسفي: فالأولى تمثل صخب العالم الخارجي، والثانية تمثل صمت العالم الداخلي، بذلك يتحوّل الفيلم إلى تأمل بصري في معنى الإنسانية حين تتقاطع الكرامة مع الألم. يُحسب للفيلم أنه يبتعد عن الصياغات الخطابية المعتادة في تناول الفقر والثراء، ويقدّم بدلاً من ذلك حكاية بسيطة مشحونة بالدلالات. الأداء النسائي هو قلب العمل، بينما الإخراج يعزّز الحس الواقعي دون التضحية بالجماليات البصرية. الفيلم دعوة للتفكير في معنى الفرح في زمنٍ تزداد فيه المسافات بين البشر، إنه يذكّرنا بأن السعادة لا تكتمل في عالمٍ يفتقد العدالة، وأن السينما لا تزال قادرة على أن تكون مرآةً صادقة لأوجاعنا الصغيرة.