لم يعد حضور الذكاء الاصطناعى فى الفنون خيالًا علميًا، بل صار واقعًا يفرض نفسه على المبدعين، خاصة فى مجال السرد الروائى، وذلك ما ناقشه ملتقى الشارقة للسرد، ومن نتاج جلسات الملتقى رصدت الأخبار الآراء التى انقسمت بين رافض يراه خطرًا على القيم الإنسانية، ومتحمسٍ يعدّه فرصة للتجديد، وفريق ثالث يترقب باحثًا عن الفائدة العملية. هذا التحقيق يرصد أبرز رؤى عدد من الباحثين والنقاد العرب: د. هيثم الحاج على، د. انتصار محمد، د. هويدا صالح، د. عادل ضرغام، د. أحمد مجاهد، ود. محمود الضبع، لتتضح خريطة النقاش حول علاقة الذكاء الاصطناعى بالرواية: هل هو منافس للإبداع البشرى؟ أم مجرد أداة مساعدة تفتح أفقًا جديدًا؟ اقرأ أيضًا | مسؤول حكومي كندي: الذكاء الاصطناعي يهدد التوظيف في كندا بين التقليد والمشاركة يشير الناقد د. هيثم الحاج على إلى أن النصوص الناتجة عن التعاون بين الكاتب والآلة قد تُعد «تأليفًا بالمشاركة»، لكنها تظل عاجزة عن بلوغ الإبداع الإنسانى الخالص. يتوقف عند تجربة الروائى محمد أحمد فؤاد فى روايته «حيوات الكائن الأخير» (2024)، التى كتبها جزئيًا بمساعدة برنامج ChatGPT، حيث اقتصر دور الأديب على تزويد الذكاء الاصطناعى بالأفكار ثم تحرير النص، يصف «الحاج على» هذه التجربة بأنها نموذج لكيفية إنتاج نصوص مقروءة لكنها أسيرة الأنماط المتكررة، واللغة الوظيفية المباشرة. ويخلص «هيثم» إلى أن الذكاء الاصطناعى يميل إلى الجمل القصيرة، ويفتقر إلى العمق المجازى، ويكرر تراكيب لغوية سائدة، كما يعجز عن كسر «التابوهات» أو توليد أنماط مبتكرة إلا بتدخل الأديب، لذا يظل دوره الأكثر فاعلية مساعدًا لا بديلاً، أداة لضبط التفاصيل أو التدقيق اللغوى أكثر منه منتجًا للإبداع. الرواية وتحولات التقنية ترى د. انتصار محمد أن الرواية تاريخيًا مرآة لتحولات التقنية: من المخطوط إلى المطبعة، ومن الورقى إلى الرقمى، وصولًا إلى التفاعلى والذكاء الاصطناعى. تؤكد أن التقنية لا تُلغى الرواية بل تجبرها على التكيف، فالنص الرقمى أتاح فضاءات جديدة للتجريب: تعدد الوسائط، إشراك القارئ فى تشكيل النص، وظهور أنماط مثل الرواية التفاعلية، لكن يبقى التحدى هو الحفاظ على البعد الإنسانى الذى يميز الأدب. فالتقنية «بحسبها» ليست خصمًا بل محفزًا، غير أن الروائى يظل الضامن الأساسى لروح النص، لأن الآلة تفتقد للذاكرة الجمعية والخبرة الشعورية التى يقوم عليها الأدب الإنسانى. غياب الذاتية فى نصوص الآلة تشدد د. هويدا صالح على أن الرواية فى جوهرها تقوم على حضور الذات الإنسانية وتجاربها، وهو ما لا يتوافر فى نصوص الذكاء الاصطناعى، فالذاكرة الإنسانية ليست مجرد مخزن للبيانات، بل خزان للتجارب والانفعالات، بينما تظل «ذاكرة» الآلة تمثيلًا لغويًا بيانيًا بلا جذور شعورية. وترى أن غياب الذات المبدعة فى النصوص الاصطناعية يجعلها محض تراكيب لغوية، لا حكايات نابضة بالتجربة الإنسانية، ذلك تبدو أعمال الذكاء الاصطناعى -مهما بلغت جودتها الشكلية- خالية من العمق الانفعالى الذى يمنح الرواية معناها. بين الحلم والآلة يلفت الناقد د. عادل ضرغام إلى أن الرواية العربية الحديثة أولت اهتمامًا بالغًا للذوات المهمشة والمقهورة والحالمة، لتصبح شهادة على التجربة الإنسانية المتنوعة. أما نصوص الذكاء الاصطناعى فتظل خالية من هذه الذاتية، لا راوٍ يروى ولا حلم يعكس الواقع. ويحذر من أن هيمنة الآلة على الإنتاج الأدبى قد تؤدى إلى تجانس مقلق فى السرد، نظرًا لاعتماد «الخوارزميات» على بيانات قد تعكس صورًا نمطية أو رؤى ثقافية محدودة، بما قد يهدد التنوع الثقافى للرواية ويشوّه هويتها الأصيلة. الإيجابيات والسلبيات يطرح الناقد د. أحمد مجاهد رؤية متوازنة لإيجابيات وسلبيات الذكاء الاصطناعى فى الأدب. من الإيجابيات: ( تحليل النصوص الأدبية بمستويات متعددة (بنية، شخصيات، حوارات)، مساعدة المؤلفين فى تحسين أعمالهم لغويًا وأسلوبًا، الكشف عن الأنماط والموضوعات المشتركة عبر العصور). أما السلبيات فتتمثل فى: (غياب الحس الإبداعى الحقيقى لارتباطه بالبيانات المسبقة، محدودية الإدراك العاطفى للنصوص، تهديد الهوية الثقافية للسرد عبر إنتاج روايات متشابهة ومقولبة). ويخلص «مجاهد» إلى أن مكمن الخطورة ليس فى تفوق النصوص الاصطناعية، بل فى تأثيرها على الأساليب التقليدية التى تشكل جزءًا من هوية الثقافة العربية. بين التخييل البشرى والذكاء الاصطناعى يرى الناقد د. محمود الضبع أن الأدب فى جوهره وظيفة إنسانية رفيعة، قائمة على الخيال والإقناع ومعالجة المشاعر، وهنا يثور السؤال: هل تستطيع الآلة أن تحاكى هذه الخصائص العميقة؟ يتتبع «الضبع» مراحل العلاقة بين الإبداع و»التكنولوجيا»، بدءًا من الخيال العلمى وصورة «الروبوت»، مرورًا بثورة الاتصالات و»الإنترنت»، وصولًا إلى مجتمع المعرفة الذى تنتج فيه الآلة بياناتها بنفسها. ويرى أن هذا التطور فتح أمام الأدب إمكانات هائلة، لكنه فى الوقت نفسه يثير أسئلة جوهرية حول الحدود بين الخيال البشرى وإنتاج الآلة. فى خاتمته، يؤكد «الضبع» أن الأجيال التى تربت على الإبداع البشرى قد تجد النصوص الاصطناعية خالية من الروح، بينما الأجيال الجديدة -التى نشأت فى سياق رقمى- قد ترى فيها جماليات تتناسب مع عالمها الافتراضى، والسؤال: هل سيهيمن الذكاء الاصطناعى على الأدب كما هيمن على تفاصيل الحياة اليومية؟ سؤال يظل مفتوحًا لمزيد من الدراسات. من خلال آراء الباحثين، يبدو واضحًا أن الذكاء الاصطناعى يمثل تحديًا مزدوجًا: أداة يمكن أن تثرى العملية الإبداعية من جهة، وتهديدًا لهوية الأدب وخصوصيته الإنسانية من جهة أخرى. فالآلة قادرة على المحاكاة والتحليل، لكنها عاجزة -حتى الآن- عن أن تخلق من عدم، أو أن تعكس التجربة الوجودية العميقة للإنسان، ويظل الإبداع ملكًا للمبدع، فيما تبقى الآلة مساعدًا ذكيًا يفتح أبوابًا جديدة لكن لا يملك مفاتيح الروح.